يستعيد حي السويقة وحي رحبة الصوف الأسطوريان الموجودان بالمدينة العتيقة الواقعة بقلب مدينة الصخر العتيق قسنطينة، أوج سحرهما خلال شهر رمضان، حيث تنفتح الأزقة أمام المارة بكل سخاء وروحانية رغم ما لحق بهما بفعل الزمن. وتفرض الجاذبية المحيطة بهذين المكانين المعبّأين بعبق التاريخ لاسيما في مثل هذه المناسبات، نوعا من الحنين المتوارَث جيلا عن جيل، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال أن بهذه المدينة العتيقة وُلدت وترعرعت “أفضل الطرق” لاستقبال شهر رمضان. وبالرغم من التوسع الكبير الذي تشهده المدينة في الوقت الحالي مع انتشار نقاط جديدة للتجارة العصرية إضافة إلى “الأحياء الراقية”، إلا أن حيي السويقة ورحبة الصوف يستيقظان خلال شهر رمضان الكريم ليستعيدا مجدهما القديم. ويؤكد “المدمنون” الذين يتسابقون على هذين المكانين الأسطوريين للتخفيف من تأثير شهر الصيام، أن السويقة ورحبة الصوف هما من بين “أسرار شهر رمضان”. ويمثل القيام بجولة ولو سريعة بين أزقة السويقة ورحبة الصوف وممراتهما الضيّقة خلال شهر رمضان، “عادة مقدّسة” بالنسبة لغالبية القسنطينيين، الذين لا يكلّون ولا يملّون أبدا من التجول بين أركان وزوايا هذين المكانين، مما يعطي الانطباع في كل مرة، بأنهم يكتشفونهما لأول مرة في حياتهم، فلا يوجد بين الروائح المنبعثة من حيي السويقة ورحبة الصوف ما هو اصطناعي؛ فهي روائح خالصة بهذين الحيين، وهما المعلمان اللذان يرفضان التخلي عن روحهما، ويسعيان للحفاظ على أثر ولو بسيط لتاريخهما الأسطوري وماضيهما الثري. ويُعد هذان المعلمان المتواجدان بمدينة الجسور المعلقة التي أَحبّها عبد الحميد بن باديس والتي طالما ألهمت الفنانين والكتّاب، بل وحتى الرسامين، محميين من طرف “نجمهما الساطع”، الذي ساعدهما في سالف الأزمنة منذ زمن البقرات العجاف، على مقاومة البؤس، والذي يساعدهما أيضا في الوقت الراهن على “حماية نفسهما”، مما يطلَق عليه التقدم والغزو، وهذا حسبما يراه المولعون بهذين الحيين بكل فخر واعتزاز. وتقول السيدة إنصاف وهي أستاذة جامعية شابة بكل عفوية: “حتى وإن لم يكن لديّ ما أقتنيه من هذين الحيين لكن تجدني دائما أتحجج بالأسباب للذهاب إلى هناك”، وتؤكد بأنها ورثت هذا العشق منذ طفولتها؛ حيث كانت أمها تصطحبها معها للقيام بالتسوق وزيارة بعض الأقارب. وحتى إن كان القيام بجولة بهذين الحيين العتيقين يشكل بالنسبة للأشخاص الذين يحنّون كثيرا لهذين المعلمين، “ضرورة حيوية” لاسيما خلال هذا الشهر الكريم؛ حيث تبرز على السطح ذكريات من الزمن الجميل، إلا أنه يبقى “مطلوبا بكثرة” من طرف أرباب وربات العائلات الباحثين عن تجارة مربحة وأسعار معقولة. ولا يمكن للقسنطينيين الذين يقصدون هذين المكانين اللذين يمتزج فيهما ما هو قانوني مع ما هو غير ذلك والروحانية والواقعية، العودة “خاويي الأيدي”، فكل شيء متوفر هناك وبكميات كافية، بدءا بلحم الغنم، وصولا إلى اللبن ومرورا ب “الخطفة”، وهي تلك العجينة التي يوضع بها حشو البوراك، دون إغفال “الكسرة” المحضّرة في المنزل، وكل هذا بأسعار في المتناوَل. وبإمكان كل من يحنّ للسويقة ورحبة الصوف؛ حيث لا تغيب الروحانية، استنشاق عبق الأصالة “مجانا”، من خلال المرور عبر الأزقة الضيّقة لهذين الحيين؛ إذ لكل حي قصة يحكيها أو أسطورة خالدة. وتصف السيدة زهور وهي قسنطينية في عقدها السابع الهواء والنسيم اللذين يملآن أرجاء السويقة ورحبة الصوف، ب “الدواء”؛ كيف لا وهما المعلمان الواقعان بالقرب من ضريح سيدي راشد الولي الصالح للمدينة، الذي دُفن على بعد أمتار قليلة من هذين الحيين وتحت الجسر الذي يحمل ذات الاسم؛ فأي روائح زكية كانت ستفوح من قسنطينة خلال شهر رمضان لولا وجود السويقة ورحبة الصوف؟!