تشكّل كأس العالم لكرة القدم حدثا كبيرا يستقطب أنظار الكون، حيث تعدّ الظاهرة الأكثر كونية تبعا لاستيعاب الاتحاد الدولي للعبة نحو مائتي دولة أي أكثر من العدد الذي تضمه منظمة الأممالمتحدة، بما جعل من سائر المواعيد المونديالية على مدار 80 عاما محطات لمنعطفات وتحولات سياسية فارقة لا تزال الذاكرة الكروية محتفظة بها، ويستعرضها السياسة في قلب العرس المونديالي في قالب من الطرافة، سجلت السياسة حضورها الأول منذ أول دورة لكأس العالم بالأوروغواي (1930)، حيث لم يجهد مدرب رومانيا آنذاك “ميكا بيليسكو” نفسه في اختيار تشكيلة فريقه، حيث قام ملك رومانيا كارول باختيار تشكيلة المنتخب الروماني آنذاك. وفي ثالث مونديال احتضنته فرنسا سنة 1938، وقبل المباراة النهائية ضد المجر، أرسل الزعيم الفاشي “الدوتشي موسوليني” برقية مختصرة للمنتخب الإيطالي:”إما الفوز، أو الموت”، وهو ما دفع الحارس المجري “تشابو” بعد فوز إيطاليا، ليصرح قائلا:”لقد خسرنا المباراة، ولكننا أنقذنا حياة أحد عشر رجلا”. وكان المونديال الكروي دائما ورقة لإسباغ الشرعية على بعض الأنظمة العسكرية الحاكمة كما حدث عام 1970، إذ سمح احتفاظ زملاء بيليه نهائيا بكأس جول ريميه، بتثبيت الحاكم العسكري الذي استولي على السلطة في البرازيل عام 1964، مثلما كان مونديال 1978، أيضا نقطة تحول باتجاه إضفاء شرعية على الحكم العسكري في الأرجنتين. الأخطر، أنّه وبسبب مباراة كرة القدم تأهيلية لنهائيات كأس العالم بإنجلترا (1966)، تأجّج صراع كبير بين دولتي الهندوراس والسلفادور، وكاد أن يتطور ذاك الصراع إلى حدود المواجهة العسكرية، إذ فجّر هدف سالفادوري لغطا كبيرا تطورت معه الأمور إلى مستوى حرب وشيكة وقتذاك. ولم تتوقف الأمور عند هذه الدرجة، حيث أفرزت حرب جزر الفوكلاند (تسمى أيضا جزر المالوين) بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982 والتي استمرت 72 يوما وأسفرت عن مقتل 655 أرجنتينيا و236 بريطانيا، في إفراز طابع عدائي بين المنتخبين. وبدا ذلك واضحا في لقاءات البلدين خلال دورات 1986، 1998 و2002، علما أنّ الكراهية والحساسية بين الطرفين اندلعت في دورة 1966 بلندن حين لعب الأرجنتينيون بخشونة زائدة ضد أصحاب الأرض، وهو ما جعل المدرب الانجليزي آلف رامزي يمنع لاعبيه من تبادل القمصان مع نظرائهم ويصف الأرجنتينيين ب(الحيوانات)، قبل أن تتطور الأمور 20 سنة من بعد بالمكسيك، إثر تسجيل النجم الأرجنتيني “دييغو أرماندو مارادونا” هدفا بيده في مرمى انكلترا خادع أيضا الحكم التونسي علي بن ناصر. مع الإشارة إلى أنّ حكام الأرجنتين العسكريين سعوا إلى إقناع شعبهم بأن فوز منتخبهم الوطني على نظيره الإنجليزي (2 – 1) في مونديال 1986، يُعتبر تعويضا عن الهزيمة العسكرية في حرب فوكلاند. ونقحم هنا ما شاب مقابلة الجزائر ومصر في الدور التصفوي الأخير لمونديال إيطاليا (1990) وما رافق لقاء القاهرة (17 نوفمبر 1989) من تجاوزات، تماما مثل لقاءهما بتاريخ 12 نوفمبر 2009 في القاهرة، أين كانت البعثة الجزائرية عرضة لاعتداء صارخ فجّر ردود فعل غاضبة في الجزائر. الأثر السلمي حضر بقوة على نقيض القلاقل التي غطت على مقابلات سبق الإشارة إليها، حضر الأثر السلمي بقوة في منافسات المونديال، حيث مكنت عدة مواجهات مونديالية من تبادل إشارات سلمية تصالحية أسهمت في رأب الصدع بين الدول واستعادة العلاقات لدفئ ظلّ مفقودا، وهو ما برز في مواجهة إيران – الولاياتالمتحدةبفرنسا (1998) من خلال التقاط لاعبي المنتخبين لصورة جماعية وما ساد ذاك اللقاء من روح رياضية مثالية، وكذا التنظيم المشترك لكل من اليابان وكوريا الجنوبية لبطولة كأس العالم (2002). ومع ذلك لم تخل مواجهة إيران للأمريكان قبل 12 سنة من نقاط ظلّ، حيث اعتبر ساسة طهران آنذاك أنّ تمكن إيران من إلحاق الهزيمة بالمنتخب الأمريكي (2 – 1) هي محض رسالة سياسية بأنّ إيران صامدة لن تقهر، في حين شنت الصحافة الأمريكية هجوما على تخاذل منتخب بلادها وعدم قدرته على هزم من نعتتهم “أعداء الأمة”، وهو جانب تعرض له كتاب (كرة القدم أهواء سياسية) الصادر في صيف عام 1998، حيث تناول تحول كأس العالم لكرة القدم إلى أداة سياسية. كما أنتجت كأس العالم آثارا إيجابية في عدة بؤر للتوتر، كما هو حال للأطراف المتناحرة في كوت ديفوار، منذ نجاح منتخب الفيلة في بلوغ نهائيات المونديال لمرتين متتاليتين (2006) و(2010). وأبرزت كأس العالم صورا سامية ظلت أكبر بكثير من الأثر العدواني التصادمي بين الشعوب، وتعاظمت معها القيمة السياسية العالية للعرس المونديالي خارجيا وداخليا. إسرائيل استغلت مونديال 2006 في سابقة فريدة من نوعها، حضرت إسرائيل في مونديال 2006 بألمانيا، رغم غيابها عن تلك النهائيات، وكان هذا الحضور المثير للجدل بأيادي لاعبين من المنتخب الغاني، فغداة فوز النجوم الممتازة على منتخب التشيك (2 – 0) برسم المجموعة الدورة الخامسة، راح لاعبان غانيان محترفان في ناديين إسرائيليين، يرفعان العلم الإسرائيلي بعد نهاية المباراة احتفالا بالفوز، في لقطة أثارت استياء الشارع الرياضي، تبعا لكون الغانيون تجاهلوا الانتهاكات الإنسانية التي تجرم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين، ومع ذلك لم يترددوا برفع علمها بدلاً من رفع العلم الغاني، خلافا لمواقف مشرفة لنجوم عالميين على غرار حارس المرمى الفرنسي فابيان بارتيز الذي رفض السفر للأرض المحتلة للعب ضد إسرائيل في مشوار بلاده في التصفيات معللاً امتناعه اللعب ضد منتخب يقتل الأطفال الأبرياء وينتهك أبسط قواعد الإنسانية. بالمقابل، شهد مونديال ألمانيا اتخاذ حكومة الأخيرة موقفا حاسما ضد العنصرية وكراهية الأجانب خلال النهائيات التي أقيمت على أراضيها، غداة تزايد التهديدات للمشجعين السود بالتعرض لهجمات، وتعرض مواطن ألماني من أصل إثيوبي لضرب مبرح أدخله في غيبوبة. وبعد أن كانت الحكومات تستثمر المونديال سياسيا، أكّد وزير الداخلية الألماني “ولفانغ شويبل” وقتئذ أنّ حكومة بلاده ستستخدم كل الوسائل القانونية الممكنة لمنع استغلال كأس العالم لأغراض سياسية، وكان يقصد بذلك أنصار التيار اليميني في ألمانيا. مونديال 2010: حدث كبير حافل بتحولات تنطوي كأس العالم بجنوب إفريقيا على تحولات عميقة، في صورة البلد المنظم جنوب إفريقيا، الذي تمكّن مسؤولوه من قلب صفحة الماضي المثخن، وأسهم الحدث في توحيد مواطني وحكومة هذا البلد وتلاحم الجميع في سبيل إنجاح المونديال الأول الذي تحتضنه القارة السمراء وما سيكون لتجسيد ذلك من دلالات في عيون العالم. وتمثل عودة المنتخب الجزائري إلى المحفل العالمي بعد غياب مزمن استمر 24 عاما، مؤشرا إضافيا على استعادة الجزائر لعافيتها واستعادتها لمكانتها الطبيعية في صدارة الأمم الكروية. وفي الشق الخاص بالمحاذير، يمكن إدراج تصريح “جاكوب زوما” رئيس جنوب إفريقيا إن بلاده ورغم توجيهها الدعوة إلى الرئيس السوداني عمر البشير لحضور حفل افتتاح الدورة هذا الجمعة، إلاّ أنّها ستعتقله إذا لبى الدعوة على خلفية ما تلوّح به المحكمة الجنائية الدولية واتهامها للبشير بما تزعمه (ارتكاب جرائم حرب). ويتذرع “زوما” بأنّ جنوب إفريقيا تقع عليها مسؤولية القبض على البشير إذا لبى الدعوة، مشيرا على التزام جوهانسبورغ بالقانون الدولي، وطبعا ستتولد عن هذا السيناريو، تبعات وخيمة على السودان الذي أعاد مواطنوه انتخاب رئيسهم قبل شهرين.