ولكن هناك من يقول لنا شيئا آخر عن سياستين أخريين في هذا الموضوع، هما سياستا الحسن الثاني، وبعبارة أخرى: كل ما قاله العروي صحيح عندما يسند فقط إلى الحسن الثاني لا إلى القادة الجزائريين، ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل تقوله صحيفة "لوموند" في عدديها الصادرين يومي الخميس والجمعة 27 و 28 نوفمبر 1975، والكاتب هو "بول بالطا" صاحب كتاب "فرنسا والعالم العربي" والمتخصص في شؤون العالم العربي السياسية، ويعرفه الأستاذ العروي جيدا كما أعرفه أنا لتلاقينا معا في بعض المؤتمرات الثقافية الدولية. يقول المقال: "إلى سبتمبر 1973 عند انعقاد مؤتمر عدم الانحياز في الجزائر، كان كل من المغرب وموريتانيا "المعنيين" والجزائر "المتهم" يؤكدون جميعا تمسكهم بمبدأين: أولهما تصفية الاستعمار الإسباني من الصحراء الغربية، وثانيهما مبدأ تقرير المصير لسكانها عن طريق الاستفتاء العام. ولكن في بحر سنة 1974 اتخذ ملك المغرب ثلاثة قرارات غيرت قواعد هذا التفاهم، فقد أعلن في خطاب 20 أوت بأن المغرب سيرفض تقرير المصير إذا كان من بين اختياراته مبدأ الاستقلال، وفي 17 سبتمبر طلب من محكمة لاهاي أن تعطي رأيها في الحقوق التاريخية التي للعرش الشريفي على الصحراء، وأخيرا وضع حدا للمشاورات المثلثة التي كانت تجري بينه وبين الرئيس بومدين والرئيس ولد دادا ليقصرها مع هذا الأخير وحده، وانتهت المساومات بين الرجلين في مؤتمر القمة العربي الذي جرى في أكتوبر 1974 إلى عقد اتفاق سري بينهما يفضي باقتسام الصحراء الغربية". ثم ينهي "بول بالطا" كلامه في هذه النقطة من مقاله بقوله: "ومنذ بداية صيف 1974 بدأ الملك المغربي يبعث برسله إلى مختلف عواصم العالم لشرح وجهة النظر المغربية، ولما كانت النتائج في المرحلة الأولى سلبية لتعارض موقف المغرب مع قرارات ومبادىء الأممالمتحدة وأيضا لمركز الجزائر الدولي شنت الصحف المغربية حملة هائجة على الجارة الجزائر لأنها لم تظهر تفهما كافيا، ولكن الجزائر قابلت هذه الحملة بالصمت، فاستغل رسل الملك المغربي هذا الصمت بتأويله في صالح قضيتهم فجاملهم البعض سرا ولكن دون الجهر بذلك، لأن تأييد المغرب معناه التنكر لمبدأ يتسمك به العالم الثالث كله، وهو مبدأ تقرير المصير، ولمبدأ آخر، هو احترام الحدود الموروثة من الاستعمار الذي أكدته الوحدة الإفريقية، أما موقف بورقيبة من هذه القضية فإن سببه رأيا مشتركا بين التونسيين والمغاربة مؤداه أن بومدين يعمل لبناء الجزائر الكبرى وليس المغرب العربي الكبير. طبعا الأستاذ العروي لا يعترف بالأدوار على هذا الشكل، فالتقلبات التي يثبتها "بول بالطا" هنا إلى الحسن الثاني يسندها العروي إلى بومدين، وهو لو ارتكب هذا القلب للوقائع في صحيفة مغربية ضيقة الانتشار لوجدنا له عذرا، ولكن أي عذر نلتمسه له في نشر هذه الفضائح التاريخية في صحيفة تقرأ في قطاعات واسعة من العالم، ثم هو لا يتورع عن ارتكاب نفس التضليل عن موقف محكمة لاهاي الذي يقول عنه: "إن المسؤولين الجزائريين يزعمون أنه ليس لديهم أي مطامع ترابية في الصحراء الغربية وهم يرمون من وراء ذلك إلى استنقاص موقف المغرب الذي يعتمد على وثائق اعترفت بها محكمة لاهاي". وقارن هذا الكلام عن موقف محكمة العدل الدولية بكلام "بول بالطا": "هذه هي الوضعية العامة في مختلف بلاد المنطقة في الوقت الذي طالبت فيه لجنة الاستطلاع التابعة للأمم المتحدة بتقرير المصير، وأيضا في نفس الوقت الذي أعطت فيه محكمة لاهاي الدولية رأيها الذي لم يبلغ صراحة اللجنة الأممية ولكنه يسير في نفس اتجاهها، إلا أن الملك الحسن الثاني لم يحتفظ من نص المحكمة إلا بجزء واحد اعتمد عليه في تجنيد المسيرة الخضراء. الواقع أن الملك الحسن الثاني، وهو من أسوأ تلامذة المدرسة الماكيافيلية في السياسة، لا يتعرض للمآخذ التي يتعرض لها عميله العروي، لأن الأول سياسي محترف ومنفذ، وصفته هذه لم تعدل بتكوين تربوي يرعى به حدا أدنى من المبادىء الأخلاقية حتى في احتراف السياسة سواء منها الداخلية نحو شعبه "العزيز" أو الخارجية نحو الدول الأجنبية، فضلا عن مراعاة إلى حد آخر أدنى من حرمة المواثيق الدولية الإنسانية كميثاق حقوق الإنسان للمواطنين المغاربة، أو ميثاق حق تقرير المصير للشعب الصحراوي. إن هذا المأخذ يتعرض له أكبر أستاذ يدعي، أو يفترض فيه التشبع ولو نظريا إن لم يمكن أن يتشبع بها عمليا، لأنه محروم من التنفيذ حتى في حياته الخاصة فضلا عن الحياة العامة، كما يفترض فيه التشبع من القراءة وحدها بحد أدنى من المبادىء سواء منها القديمة الموغلة في المثالية والتجريد، أو المحدثة الموغلة في العقلانية والمادية، فهذه المبادىء مشتركة جميعها في إقامة فلسفتها النظرية على هذا النوع أو ذاك من الفضيلة كأساس، وتهدف إلى هذا النوع أو ذاك من أنواع الخير كهدف.