تحول النقاش في العالم العربي هذه الأيام من البحث عن كيفية إلغاء مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني عمر البشير الى البحث عن كيفية إقناعه بعدم السفر الى الخارج. الواضح أن حملة الإقناع هذه التي يباشرها الحكام العرب ليست نابعة من الخوف على حياة الرئيس السوداني أو على بلده من بعده، بل هي نابعة من خوف هؤلاء الحكام على مصيرهم أو بالأحرى على ردة فعل الشعوب العربية في حالة ما إذا تم القبض على عمر البشير وزج به في السجن ثم حوكم وصدر ضده حكما بالإعدام ولو بواسطة محكمة سودانية، بعد أن يتم الإطاحة بنظامه مثلما حدث في العراق. قد يكون هاجس ما لقيه الرئيس العراقي صدام حسين، الذي أعدم عشية عيد الأضحى، وما حصل قبله للرئيس ياسر عرفات الذي مات بعد تسميمه وهو تحت الحصار، ماثلا أمام أعين الحكام العرب لا يفارقهم أبدا. ولكن هذا الهاجس تمكن بعضهم من تجاوزه فكل واحد له طريقته الخاصة لإرضاء الدول المتمكنة ومنها على الأخص الولاياتالمتحدةالأمريكية مثلما فعل الرئيس الليبي"معمر القذافي" مع المتهمين الليبيين في قضية طائرة "لوكربي" ومثلما فعل ويفعل رؤساء آخرون الآن. المؤكد حاليا، أن الشعوب العربية هي الهاجس الأكبر بالنسبة للحكام العرب، فالشعوب لا يمكنها الآن في الظروف الحالية أن تقبل وتمرر بسلام صدمة أخرى بحجم صدمة إلقاء القبض على الرئيس البشير بعد الصدمة التي تلقتها منذ شهرين إثر الحرب الاسرائلية على غزة والتخاذل العربي الذي سجل في التأخر عن مساندة الشعب الفلسطيني والتآزر معه. ومهما قيل عن ما فعله الرئيس البشير في إقليم دارفور أو بالأحرى ما تم فعله تحت غطاء نظامه وحماية جيشه، فإن صدمة التخاذل العربي ستكون كبيرة على الشعوب العربية هذه المرة، وقد لا تكتفي هذه الشعوب بالخروج الى الشارع بل قد تأخذ الاحتجاجات أشكالا أخرى يمكنها أن تصل الى حد إعلان العصيان المدني على الأنظمة. واقعيا، هل يتطلب الأمر محاكمة البشير الآن؟ لو سَلّم المتهمين بارتكاب مجازر في دارفور، وزير الدولة المكلف بشؤون حقوق الإنسان وقائد "الجانجاويد" لما تم ذلك. لكنه رفض ذلك، كما رفض إشراك الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا في الاستثمارات البترولية والمعدنية في منطقة دارفور وفضل أن يتعامل مع الصين، وهو ما لم تهضمه الدول الثلاث. لو اتجه الرئيس البشير الى عقد صفقة من هذا النوع أو بطريقة أخرى، هل كان سيلقى نفس المصير الذي لقاه كل من الرئيسين الفليسطني والعراقي اللذين رفضا عقد صفقات؟ البشير، ارتكب أخطاء فحتى أستاذه حسن ترابي، الذي أوصله الى سدة الحكم، يدعم مذكرة توقيفه فما بالك بالمعارضة في دارفور الموجودة في بريطانيا، ومنها حركة العدل والإحسان التي تشجع تنفيذ المذكرة. ما حدث في دارفور شيء مؤسف لا ينبغي السكوت عليه ولا تكراره حيث يقول خبراء دوليون إن 300 ألف شخص على الأقل قتلوا وإن أكثر من 2.7 مليونين نزحوا عن ديارهم خلال نحو 6 سنوات من القتال في دارفور،. ولكن هل أن ماحدث في غزة هو شيء عادي بالنسبة ل"أوكامبو" المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ول"أوباما " أول رئيس زنجي للولايات المتحدةالأمريكية ، ول"ساركوزي " رئيس فرنسا القائمة على شعار "الأخوة والحرية والمساواة "، ولحكام بريطانيا البلد الداعي الى الحريات. لقد قتل في غزة أزيد من 1400 شخص وجرح أكثر من 5000، نصفهم نساء وأطفال، وزيادة على هذا فإن جنود اسرائليين صحت ضمائرهم وشهدوا علنية أمام وسائل الإعلام أنهم ارتكبوا مجازر في حق المدنيين تحت تعليمات قادتهم العسكريين وساستهم المدنيين. فلماذا لا تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف ضد "باراك" و"أولمرت" و"نتايناهو" و"تسيبي" ؟ أم أن "أوكامبو" يصاب بالعمى والصمم عندما يتعلق الأمر بقادة إسرائليين؟ سوف لن يجد القادة العرب هذه المرة، أي شيء يبررون به إيقاف الرئيس السوداني ومحاكمته. فعليهم أن يجدوا حلا للورطة التي وضعهم فيها البشير الذي سافر الى ارتيريا ثم الدوحة ثم السعودية وصرح مؤخرا بأنه ينوي السفر الى نيويورك ليتحدى بطريقته دول الغرب. ويبقى كل شيء متوقفا على البشير. والأيام المقبلة ستكون حاسمة، فهل سيخلع الحكام العرب المتخاذلون "جبة الذل والهوان" ويخرجوا من بيت الطاعة الأمريكي. أم أنهم يتركوا الفرصة للشعوب حتى تقوم بهذه المهمة؟