بعد تأدية رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة لمراسيم اليمين الدستورية، وإلقائه لخطاب تضمن ما تحقق من إنجازات كبرى إلى جانب ما ينتظر العهدة الثالثة من برنامج عمل تَنموي طموح يشمل كافة المجالات لتحقيق وثبة اقتصادية من شأنها إخراج الجزائر من "التبعية النفطية" إلى اقتصاد مبني على أسس عصرية قوامه "المعرفة" و"الكفاءة" و"التنافسية" في السوق العالمية. ما إن انتهت مراسيم اليمين الدستورية حتى أن انكب الاهتمام عن التشكيلة الحكومية التي سترافق الرئيس في تجسيد وعود برنامجه الانتخابي طوال العهدة الثالثة، ولم يأخذ في ظل ذلك، خطاب الرئيس بوتفليقة بكل ما حمله من أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية ورسائل قوية وأهداف واضحة وإجابات صريحة وواقعية عن "جزائر الغد"، لم يأخذ حقه من النقاش والتحليل والمعالجة، خاصة وأنه تطرق إلى أبرز التحديات العالمية التي تواجه الجزائر كغيرها من دول العالم، وخاصة "الأزمة المالية الحادة التي تضرب الاقتصاد العالمي". ولقد أدت هذه الأزمة إلى زعزعة أعتى القوى الاقتصادية العالمية من اليابان إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى دول الإتحاد الأوروبي، فتهاوت العشرات من البنوك والشركات واختفت الملايين من الوظائف، وساد الاعتقاد أن عهد الرأسمالية قد ولّى وربما إلى الأبد بعد أن لُغّم مستقبل الإنسانية. أمام هذا العالم الاقتصادي الذي لا يرحم، ألا يجدر بنا أن نرتقي باهتماماتنا وتفكيرنا إلى ما هو أهم من بقاء الحكومة أو ذهابها، ألا وهو إخراج الجزائر من مأزق "التبعية النفطية". إن الحكم الراشد كما دأبت على استخدامه مؤسسات الأممالمتحدة منذ عقدين من الزمن، يأتي كمفهوم يعكس ضرورة أن تقوم السلطة السياسية بإدارة شؤون المجتمع بما يكفل تحقيق التطور والتنمية بحيث يزداد معدل الرفاهية وتتحسن نوعية حياة المواطنين مما سيزيد من معدل الرضا والمشاركة. ولا بأس أن نشير هنا إلى الأبعاد التي تتحكم في ممارسة السلطة السياسية لإدارة شؤون المجتمع وفق ما يقتضيه مفهوم الحكم الراشد، وهي: 1-البعد السياسي : ويرتبط بطبيعة السلطة السياسية ومدى شرعيتها في التمثيل. 2-البعد التقني : ويبرز مدى فعالية وكفاءة الإدارة العامة في القيام بمهامها. 3-البعد الاقتصادي و الاجتماعي: ويتمثل أساسًا في إبراز الدور الذي يقوم به المجتمع المدني إلى جانب السياسات العامة المنتهجة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. فهذه الأبعاد الثلاثة تتلاحم فيما بينها لتنتج ما يُسمى بالحكم الراشد. فالانتخابات الرئاسية الأخيرة أعطت للسلطة شرعية قوية في التمثيل، كما أن الإدارة حظيت باهتمام خاص في البرنامج الانتخابي للرئيس بوتفليقة الذي أكد على ضرورة "إحراز المزيد من التقدم في مجال ترشيد الحكم" وذلك "بترقية نوعية الخدمة العمومية في جميع المجالات" وقد جدد الرئيس بوتفليقة في خطابه بعد أداء اليمين الدستورية على أن "من شأن عملية تحديث الإدارة العمومية أن تزيد من فعالية وظيفة الرقابة على كل المستويات". ومن هنا يتضح أن تعزيز فعالية الإدارة لإنجاز مهامها على أكمل وجه سيعزز من البعد التقني كأحد أبعاد الحكم الراشد في ظل العهدة الثالثة. ويبقى دور المجتمع المدني وحيويته إلى جانب السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية من شأنها هي الأخرى أن تعزز من فرص التئام شروط وثوب الجزائر نحو "الحكم الراشد" الذي أصبح في ارتباط وثيق مع التنمية البشرية المستدامة التي تشمل جميع المجالات وتقوم هذه التنمية على أساس: 1-المشاركة الواسعة للموظفين. 2-العدالة في التوزيع. 3-التخطيط بعيد المدى الذي لا ينحصر في الجانب الاقتصادي وإنما يتوسع ليشمل مجالات السكن والبيئة والتعليم والثقافة وغيرها. فتحقيق تنمية بشرية مستدامة تستلزم وبالدرجة الأولى الحكم الراشد الذي يعتبر المحوّل للنمو الاقتصادي إلى مظاهر حقيقية وملموسة لهذه التنمية التي تجعل من محورية الإنسان في العملية التنموية أحد أبرز معاييرها. فجزائر العهدة الثالثة، وبغض النظر عن الطاقم الحكومي، فهي في أشد الحاجة أولاً وأخيرًا إلى تكريس "الحكم الراشد" الذي يعطي للمواطن مكانة مميزة من حيث المراقبة والمساءلة والمشاركة، وقد تكون هذه أول خطوة من مسيرة الألف خطوة للخروج من "التبعية النفطية"!!