يقول أتوفون بسمارك مؤسس الإمبراطورية الألمانية: إذا قال رجل أنه يوافق على شيء من حيث المبدأ، فهذا معناه أنه ليس لديه أيّ نية لوضع هذا الشيء حيز التنفيذ. دخل حراك الجزائر أسبوعه الثامن عشر، وتغيرت معه أشياء كثيرة، لكن المطلب الأساسي الذي وحّد الجزائريين حوله لم يتحقق بعد، فتغيير النظام لم نصل إليه على الرغم من أن أغلبية رموزه التي كانت على هرم السلطة قد أزيحت أو أدخلت السجن، فالشعب الذي سبق له وأن لدغ من الجحر نفسه طوال سبعة وخمسين سنة لا يريد أن يلدغ من جديد ومن نفس الجحر، لذلك يرى أنه من المنطقي المطالبة بإزاحة جميع الأشخاص الذين كانوا حلقة رئيسية في نظام بوتفليقة قبل الحديث عن العودة إلى المسار الانتخابي، فالحراك لم يخرج لتغيير الأشخاص واستبدالهم بأشخاص آخرين، وإنما خرج لتغيير نمط التسيير المتبع منذ عقود والذي أوصلنا إلى ما نحن عليه من تفشي للفساد ، وأزمة اقتصادية خانقة على الرغم من الخيرات التي تنعم بها البلاد. إن انطلاق الحراك في 22 فيفري لم يكن كنتيجة لدور منصات التواصل الاجتماعي، حتى وإن كان للذباب الإلكتروني التابع لأحد أجنحة السلطة آنذاك دور في نشر الدعوة للتظاهر، فالأقطاب المتصارعة في تلك الفترة في هرم السلطة أشعلت حربا فاحت رائحتها للعلن، محاولين القضاء على خصومهم بمختلف الآليات، لكنهم لم يكونوا على علم بمدى الاحتقان الذي كان الشعب يحسّ به إزاء تسييرهم العبثي ، واستخفافهم بهم واستغباءهم بتصريحات غير واعية من قبل مسؤولين مستهترين لا يقدّرون عواقب ما يتلفظون به، الأمر الذي جعل أية شرارة في ذلك الوقت يمكن لها أن توقد نارا عظيمة، وهذا ما حدث، لكن الأمر الذي لم يتصوّروه هو أن وعي الشعب جعلهم لا يتحكّمون في تلك النار، بحيث وجّهها الحراك لتستهدفهم فتساقطوا تباعا. لقد مكّنت الانتفاضة من بلورة رؤية واضحة للمطالب المشروعة التي تنحصر أساسا في بناء جمهورية مدنية جديدة قائمة على سلطة القانون الذي يكفل العدالة الاجتماعية، لأن هذا الأمر قد غيّب منذ فترة طويلة، وازداد تغييبه أكثر منذ عقدين من الزمن حيث أصبحت القوانين توضع بمقاس مصالح الأشخاص لا مصالح الدولة، وأظهرت التحقيقات الأخيرة للعدالة مدى صحة رفض الشعب للنظام السابق، مع أن ما خفي هو أعظم بكثير مما أعلن. انطلقت الثورة المضادة مباشرة مع الأسابيع الأولى آملة في وأد الحراك قبل انتشاره بشكل أوسع، لكنه لم يتحقّق لها ذلك، فباتت محاولاتها أشبه بشخص يحرث في البحر، وعلى الرغم من ذلك ازدادت حدّتها طمعا في تكسير شوكة الحراك، فتبنّت عدة آليات تركّزت أساسا على استهداف محاور قوة الانتفاضة، إذ أن سلمية الحراك جعلت أغلب أطياف الشعب ينظمون إليه: أطفالا ونساء وشيوخا، فحاولت السلطة التي تقف وراء هذه الثورة المضادة دسّ بعض العناصر المنحرفة قصد جرّه إلى العنف، لكن فطنة المشاركين في المظاهرات وأعدادهم الهائلة لم تمكّنهم من مبتغاهم حيث أضحوا بمثابة حفنة صغيرة من المندسين وسط بحر من المتظاهرين السلميين، فما لبثوا وأن انفلتوا بجلدهم قبل أن يحاصروا ويوضعوا بين يدي العدالة. ثم حاولوا بث التفرقة بين صفوف المتظاهرين، لأن العامل الثاني في نجاح الحراك واستمراريته هو وحدته، فجماهير المتظاهرين خرجوا في كل بقاع الوطن حاملين معهم الأعلام الوطنية، وأعلام الهوية الأمازيغية رفرفوها بافتخار من دون أن يحدث أدنى انشقاق بين صفوفهم، بل على العكس لوحظت أعلام الهوية الأمازيغية في أماكن لم يخطر على بال أحد أن ترفع فيها، فحاولت السلطة المتساقطة استغلال هذا الأمر وبدأت بدفع أبواقها من ذباب إلكتروني ومن أشباه الساسة والصحافيين ليحاولوا زرع الفتنة بين صفوف الشعب لكنهم لم ينجحوا، لأنهم وجدوا المتظاهرين متمسكين بجزائريتهم وهويتهم الأمازيغية، ولا يمكن لأي طرف أن يفرّق بينهم، لذلك رفعت الشعارات المعبّرة عن الوحدة بكثافة أثناء المسيرات ردا على أولائك المتهورين فحقّقت الثورة المضادة نتائج عكسية إذ ازداد تلاحم أطياف الشعب بمختلف لغاتهم وثقافاتهم. ثم عمدت السلطة المتساقطة على بث التفرقة بين الشعب وبين الجيش أملا في انحياز هذا الأخير إلى صفهم، متناسين أن الجيش ما هو إلا جزء لا يتجزأ عن الشعب، فكان ردّ المتظاهرين عفويا وقويا: جيش شعب، خاوة خاوة. إن دور المؤسسة العسكرية في مثل هذه الظروف هام جدا، والتاريخ سيسجّل موقفها المشرّف الذي اتخذ مع بداية الحراك وذلك بمساندتها لمطالب الشعب عوض مساندتها للمؤسسات الدستورية التي كانت السلطة تتربع على عرشها، وهذا الأمر قد جنّب الجزائر الدخول في فوضى عارمة، نظرا لتعنّت أصحاب القرار ورفضهم تلبية مطالب الشعب، لذلك جاءت تنحيتهم على مراحل تبعا لصمود الحراك واستمرار تمسّكه بمطالبه المشروعة. أما الآن ونحن في الجمعة الثامنة عشر أرى أن الشعب ليس بحاجة لا للدروس التوعوية بحكم أنه صمد أمام الثورة المضادة لأشهر عديدة دون أن يتخلى لا عن سلميته ولا عن وحدته ولا حتى عن مطالبه، وليس بحاجة أيضا إلى المزيد من المبادرات، لأن ما قدّم هو كاف لإخراج الجزائر من أزمتها. وبالتالي ، فاستمرار الأزمة لا يعود إلى عدم وجود حلول وإنما إلى غياب النية الصادقة في تحقيق المطالب المرفوعة، فالشعب يريد انتخابات لا محل لرموز النظام السابق فيها، وهو أمر يمكن له أن يتحقق سواء بإجراءات سياسية أو حتى دستورية، فخليفة بن صالح الذي يقبل به الحراك يمكن أن يسيّر المرحلة الانتقالية التي تسمح بتهيئة الظروف الملائمة لإجراء انتخابات حقيقية شفافة . وهناك عدّة آليات دستورية تمكّنه من استخلاف منصب رئيس الدولة كتنصيبه عضوا ثم رئيسا لمجلس الأمة أو تنصيبه عضوا، فرئيسا للمجلس الدستوري، علما أن الحكومة الموروثة عن النظام السابق يمكن لها تقديم استقالتها بحكم أن ذلك لا يتعارض مع مواد الدستور، وبالتالي تأسيس حكومة توافقية تسيّر الأمور إلى غاية انتخاب المؤسسات الدستورية الجديدة . عندما نتحدّث إذن عن استمرار الأزمة فلكون المبادرات المقدّمة لم تجد بعد العنوان الحقيقي الذي يستقبلها ويعمل على تحقيقها، فالجميع يتهرّب من المسؤولية وكأنهم راضون بالوضع الذي نحن عليه الآن، على الرغم من خطورته، لذلك أرى أن الاستمرار في تبني ورقة الطريق القديمة المتمثلة في الحوار و إجراء الانتخابات الرئاسية في مثل هذه الظروف ما هو إلا عملية تكريس لاستمرارية النظام المرفوض جماهيريا، ألم يسبق للرئيس المنتهية عهدته دعوة الحراك لندوة وطنية جامعة؟ ألم يسبق له أن وعد بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة؟ إننا ندور في الحلقة المفرغة نفسها، فمن سيرعى الحوار؟ ومع من نتحاور؟ وعلى أي شيء سنتحاور؟. لقد أثبتت التحريات التي تقوم بها أجهزة الأمن بأننا كنا تحت حكم نظام مافياوي بأتم معنى الكلمة، فهل من المعقول أن نضع ثقتنا مجدّدا في بقايا رموزه؟ أليس من المنطق استبعادهم جميعا وبناء نظام جديد على أسس صحيحة لا مكان للفاسدين فيه؟. لقد عملت الثورة المضادة على تشويه جميع صور آليات التحول الديمقراطي الحقيقي، بدءا بتخوين الشخصيات الوطنية المساندة للحراك، وشيطنة جميع الحلول المنطقية كرفض المجلس التأسيسي وكأن أعضاءه سيستقدمون من تل أبيب، أو التخويف من النظام البرلماني وكأن النظام الرئاسي الذي أفرز لنا امبراطورا هو الكفيل بترسيخ الحكم الراشد. إن الديمقراطية الحقيقية في مثل الأوضاع التي نعيشها حاليا تستوجب العودة مباشرة إلى الشعب، لكن الواقع يضعنا أمام جهاز إداري منحاز للسلطة، وبالتالي لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بعد تحييده واستحداث آليات رقابة وتنظيم ومتابعة حقيقية للانتخابات، فعبر هذه الآلية يمكن الدعوة لاستفتاء يحدّد المصير السياسي للجزائر بدءا باستشارته حول قبوله أو رفضه إنشاء مجلس تأسيسي سيد يقوم بالإصلاحات الجوهرية على الدستور، وباختيار حرّ للنظام المسيّر للدولة بين البرلماني والرئاسي، انتهاء بالآليات التي تمكّننا من القضاء على التسيير المركزي الذي خلّف دولة متخلفة في كامل القطاعات، لأن الحديث مجددا عن الطاعون والتيفوئيد والسل يعكس بشكل واضح الحالة الاقتصادية للمواطنين. لا ينتظر الشعب من السلطة أن تقدّم له صدقات على النحو المنتهج من قبل، بل يطالب بتجسيد مشاريع اقتصادية تحقّق تنمية حقيقية وتساهم في تجسيد مناصب عمل دائمة على أرض الواقع ، وعلى هذا الأساس يجب استحداث تغيير جذري في المنظومة الاقتصادية والصناعية والزراعية، بحيث تبنى على قوانين صارمة تسهم في تسريع وتيرة الخروج من تبعية الميزانية للجباية البترولية، أما الاستمرار في النهج نفسه وذلك بالتنقيب عن البترول في البحر أو التنقيب عن الغاز الصخري في الصحراء، فهذا دليل على محدودية الرؤية لدى بقايا السلطة ، لأننا بصراحة سنظل حبيسي منطق: موسى الحاج / الحاج موسى، في الوقت الذي يهتم فيه جيراننا بالزراعة والسياحة والطاقات المتجددة، وأمور أخرى تمكّنهم من الانطلاقة الفعلية نحو التطور والرقي. إنه لمن المؤسف حقا أن نتذيل الدول العربية في مجال الانفاق على البحث العلمي: 12.5 مليار للسعودية مقابل 0.2 مليار دولار للجزائر ! أما إسرائيل التي تتربع على عرش دول العالم في هذا المجال فتخصص سنويا ميزانية تفوق كل ما تخصصه الدول العربية مجتمعة !. إن المشاركين في حراك الجزائر يحلمون ببناء دولة مدنية عصرية مبنية على أسس متينة تمكنّنا من تحقيق الطفرة التي تسمح لنا بالاستغناء النهائي عن كل أشكال التبعية الخارجية، والجميع يعلم بأن الثورة المضادة لا تتضمن أفرادا من السلطة المتساقطة فحسب، بل تضم أيضا دولا لا تريد النجاح للحراك، فتمكّن الشعب من استعادة حريته وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي سينقل حتما العدوى إليهم إذا ما كانت أنظمتهم مبنية على الاستبداد، أو سيتوقف الضرع الذي كان إلى عهد قريب يملأ ميزانيات بعض الدول المتقدّمة. لهذا كله رفض الحراك الاستسلام، فوعيه جعله يستميت في سلميته ووحدته والتأكيد على مطالبه بينما أنصار الثورة المضادة كالمعتاد يغردون خارج السرب. د.بوعلام بطاطاش