إن الرحمة بالناس بل وبالحيوان عاطفة نبيلة وخلق شريف من أفضل الأعمال وأزكاها وأرفعها وأعلاها، وناهيك بها أنها خلق الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وقد مدح الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال في وصف رسوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128) وقال : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (التوبة: 107)، والقسوة ضد الرحمة، وقد عاقب الله بها اليهود لما نقضوا العهود إذ يقول جل وعلا: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً). فالرحمة فضيلة والقسوة رذيلة، وكان مجيء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته من عند الله رحمة لناس يتخبطون في بحر الأوهام والجهالات ومساوئ الأخلاق، وسيء العادات وقبيح الأعمال، يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار والأوثان والشمس والقمر، آلهتهم شتى وأربابهم متفرقة، جاء نبي الرحمة وقد فشي في الناس الفساد وعم، وأظلم الجو وشمل الظلم العباد، فالقوي يأكل الضعيف ولا مراقب له ولا مُخيف، يئدون البنات ويقتلون الأولاد، فجاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذهم الله به وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام وتعظيمها إلى معرفة الله وتوحيده، والتفكير في الإله وتمجيده وتقديسه، وانتشلهم من أوهامهم وجهالاتهم وضلالاتهم ومساوئهم إلى نور القرآن وتعاليمه، فبعد أن كانوا قابعين في عقر دارهم قانعين في جزيرتهم إذا بهم يحملون إلى العالم أجمع رسالة النور والأمان والحق والسلام، فيفتحون البلاد ويسوسون العباد بفضل ما وهبهم الله مما تمكن في نفوسهم وقوي في أفئدتهم من حب الرحمة وابتغاء للرأفة بخلق الله. والنبي صلى الله عليه وسلم يرغبنا في الرحمة واللين والرفق والمسامحة بقوله وفعله، فهو يقول: (من لا يَرحم لا يُرحم). وهو القائل: (لا تُنزع الرحمة إلا من شقي). أي ولا تسكن إلا في قلب تقي، فالرحمة فضيلة والقسوة والغلظة رذيلة. والرحمة لا تختص بالإنسان بل تعم الحيوان وكل ذي روح وإحساس، فمن آثارها ما يجده الوالد لولده، فمن آثارها تقبيله ومعانقته وشمه وضمه وحُنُوُه عليه، كما صنع الله عليه وسلم بالحسين والحسن رضي الله عنهما، ومن آثارها تأديبه وتربيته وإجابة رغائبه ما دامت في سبيل المصلحة وإبعاده من الشر، وتكون الرحمة بالآباء والأمهات؛ وآثارها اللطف بهما والعطف عليهما، والقول الكريم لهما وصنع الجميل فيهما، والذب عنهما والحنو عليهما والشفقة عليهما وإظهار البشر لهما، قال الله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً). ومن آثار الرحمة جريان الدمع مع العين وذرفها عند المصيبة، كما كان صلى الله عليه وسلم حال وفاة ولده، فقد جعلت عيناه تذرفان الدمع فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: (يا ابن عوف؛ إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرُحماء). ولذا أجاب الأعرابيَ الذي قال: أتقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم، فقال له: (أَوَأَمْلك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك)، ومن آثار الرحمة بالقريب والصديق أن تخصه بمزيد من البر والإحسان، فتُنفس كُرَبه وتخفف ألمه وتُفرج همه وتسعى لإزالة الشحناء ورفع البغضاء، وتُواسي فقره وتُرشده عند الحيرة وتُنبهه عند الغفلة وتنصحه إذا استنصحك، وتُعين العاجز وتعود المريض ونحو ذلك من الأعمال الصالحة النافعة. وتكون الرحمة بالأقرباء؛ وأثرها وصلتهم وزيارتهم ومودتهم والسعي في مصالحهم ودفع ما يضرهم، وتكون الرحمة بين الزوجين؛ وآثارها المعاشرة بالمعروف والإخلاص والوفاء المتبادل، وأن لا ترهق الزوجة زوجها بالطلبات، ولا يكلفها هو بالمرهقات، بل يتعاونا على شؤون المنزل وتربية الأولاد. وتكون الرحمة بأهل دينك، ترشدهم إلى الخير وتعلمهم ما تقدر عليه مما ينفعهم، وتعمل لعزهم ودفع المذلة عنهم، وتكون رحيما بالمؤمنين جميعا، فتحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لها. ومن أثر الرحمة بالحيوان ما جاء في حديث مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذ ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). وذلك بأن يرفق بها ولا يصرعها، ولا يجرها من موضع إلى موضع بسرعة ترهقها وترهبها، بل بلطف، ولا يسرع بقطع الرأس، ويسرع بقطع الحلقوم والودجين عند ذبحها، ويتركها إلى أن تبرد لتخفيف ألمها بقدر الاستطاعة. ومن الرحمة بالحيوان ما يُحدثنا به صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفَه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له). قالوا: يا رسول الله؛ وإن لنا في البهائم أجر؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر).