أجمع أهل العلم على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد كفر، قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف. وبهذا الحكم صرّح كثير من العلماء منهم مالك رحمه الله، فقد رُوي عنه: من سب أبا بكر جُلد، ومن سب عائشة قُتل، قيل له: لِمَ؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن. ذلك لأن الله تعالى يقول: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فمن عاد لمثله فقد كفر. وقال ابن حزم تعليقاً على قول الإمام مالك السابق: قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها. ومما استدل به الإمام مالك أن في هذا تكذيباً للقرآن الذي شهد ببراءتها، وتكذيبُ ما جاء به القرآن كُفر. قال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن. كما أن الحجة في كُفر من سبّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه أن في سبّها إيذاء وتنقيصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا فرّق ابن عباس رضي الله عنهما بين قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، وبين قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فقال عند تفسير الآية الثانية: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهي مُبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ: (والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة. فَهَمَّ رجل أن يقوم فيُقبل رأسه من حسن ما فسر، فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما أنزلت فيمن قذف عائشة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيّبَه، فإنّ قذْف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لأبيها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، وأن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيماً، ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف. ومما يدل على أن قذفهن أب أزواج النبي أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر عن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي)، فقوله: من يعذرني أي من يُنصفني ويُقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه. كما أن الطعن بها رضي الله عنها فيه تنقيص برسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب آخر، حيث قال الله عز وجل: (الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، قال ابن كثير: أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيّبة لأنه أطيب من كل طيّب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلُحت له لا شرعاً ولا قدراً، ولهذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان. وقد اختلف العلماء في قذف وسب بقية أمهات المؤمنين، والراجح الذي عليه الأكثرون هو كُفر فاعل ذلك، لأن المقذوفة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضِب لها لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء، وكذلك يكفر لأن في ذلك تنقيص وأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقذف حليلته. هل يجوز فتح ملف صراع الصحابة مما اطلع عليه الناس من قديم متجدد ذكر الاقتتال الذي جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم؛ وهذا الباب لا يُفتح لمن شاء من الناس ليقول ما يقول؛ ولهذا سبق العلماءُ عامةَ الناس بفصل الخطاب فيما وقع بين الأصحاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنَهَوْا عن الحديث أو الخوض فيما اختلفوا فيه؛ لأنه الأسلمَ للمسلم، سُئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: تلك دماء طهّر الله يدي منها؛ أفلا أُطهر منها لساني؟ مَثَلُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَثَلُ العيون؛ ودواء العيون ترك مسها. وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا؛ وعلموا وجهلنا؛ واجتمعوا