شيعت، بعد ظهر أمس الجمعة، جنازة العلامة والداعية الشيخ عبد الرحمان الجيلالي رحمه الله، وكان الفقيد قد انتقل الى جوار ربه ليلة الخميس إلى الجمعة أمس بمستشفى عين طاية شرقي العاصمة، عن عمر يناهز 103 سنة.وقد ولد الشيخ العلامة عبد الرحمان الجيلالي سنة 1908 بالجزائر العاصمة، وكانت هذه المدينة العريقة في بدايات القرن الماضي فضاء خصبا لنشاط ثقافي وديني غني قاده أعلام من الفقهاء والأدباء والكتاب، من أمثال الشيخ محمد السعيد بن زكري الزواوي المتوفى سنة 1914، الذي كان مدرسا بالجامع الأعظم وإماما بجامع سيدي رمضان بالقصبة ومفتيا شهيرا على المذهب المالكي، وكذلك الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان يشرف على تسيير الحركة التعليمية بالمدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي كان مقرها بنادي الترقي بساحة الشهداء بالعاصمة، والذي كان ملتقى للنخبة المثقفة، حيث كان يحتضن أمسيات ثقافية كان ينشطها أعلام من أمثال الشيخ الطيب العقبي والشيخ العربي التبسي وغيرهما من المشايخ رحمهم الله أجمعين. نسب شريف إلى الشريفة رضي الله عنها ويعود نسب الشيخ عبد الرحمان الجيلالي إلى آل الشجرة الموسوية القادرية وفروعها الأشراف القاطنين بسهول متيجة، وتصل سلالتهم إلى مولانا عبد القادر الجيلالي سليل الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويوجد ضريح الجد عبد القادر الجيلالي المتوفى سنة 1077م ببغداد بالعراق، وله آثار علمية مطبوعة مثل كتاب الغنية لطلب الحق والفتح الرباني والفيض الرحماني وجلاء الخاطر في الباطن والظاهر، وكذلك كتاب آداب السلوك والتوصل إلى منازل الملوك، وغيرها. وللشيخ عبد القادر رحمه الله تلاميذ بالجزائر، منهم القطب الرباني الغوث سيدي أبي مدين شعيب الإشبيلي المتوفى سنة 1198 والموجود ضريحه بتلمسان. خريج أعرق مدارس العاصمة كان الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان بالعاصمة ومسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي روضات للعلم والتفقه في الدين الإسلامي، فكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي واحدا من الذين تلقوا تعليمهم الديني منها، وقد تناولها بالدراسة في العديد من الأبحاث التي صنفت هذه الآثار ضمن المعالم الإسلامية الأكثر أهمية في الجزائر العاصمة، حتى أنه أعد دراسات دقيقة ركز فيها على فنياتها المعمارية والصناعية الدقيقة، وهو مافتح له باب البحث والتعمق في دراسة حركة المجتمع الجزائري السياسية والعلمية حتى باتت كتاباته في هذا المجال مرجعا للدارسين والباحثين لما تتميز به من دقة وشمولية، ومنهم الباحث المستشرق الفرنسي الشهير جورج مارسي. خبير حتى في فن الموشحات الدينية كان الشيخ بوڤندورة مفتي المذهب المالكي بالعاصمة يعقد حلقات للذكر بمسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي، تطلق عليها تسمية الحضرة أو القصادين، ويقوم فيها الحاضرون بإنشاد القصائد الدينية أو مايعرف ب المديح، وكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي يحضر هذه الحلقات، فتكونت لديه ملكة معرفة الأزجال والموشحات الأندلسية، حتى أصبح خبيرا فيها، رغم أنها معقدة عروضيا ولها طابع صوفي تتشابك فيها أصول ممازجة الألفاظ المشحونة بالشعور العاطفي والديني. شاهد على زمن الحركة الإصلاحية أنشأ العديد من مثقفي وفناني ورياضيي الجزائر العاصمة في تلك الفترة (بدايات القرن الماضي) جمعيات ونواد يزاولون فيها أنشطتهم المختلفة، لكن نادي الترقي بساحة الشهداء أكثرهم أهمية لكونه كان مقصدا للنوابغ من المثقفين والعلماء. وهناك تمكن الشيخ عبد الرحمان الجيلالي من الاحتكاك برواد جمعية العلماء المسلمين، كما استفاد من تجربة النشاطات المسرحية التي عرفت بكثافتها في تلك الفترة لكونها نالت اهتمام العديد من المثقفين مثل المحامي الطاهر بن علي الشريف الذي أنشأ جمعية المهذبية الجزائرية وأحمد توفيق المدني وعمر راسم والشيخ محمد العيد آل خليفة وعبد الله نقلي، وكان لهؤلاء الفضل في انتشار الحركة المسرحية في أرجاء كثيرة من أرض الجزائر. جعل الإذاعة مدرسة للتربية والتوجيه التحق الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بالإذاعة الوطنية التي قدم فيها برامجه المجيبة على تساؤلات المستمعين الدينية، فاشتهر ببرنامج لكل سؤال جواب الذي كان ركز فيه على مفاخر التاريخ القومي الإسلامي، فاستحسنته الجماهير ونال رضاها، وبسبب نجاحه قررت إدارة الإذاعة إنتاج برنامج آخر هو رأي الدين في أسئلة المستمعين الذي لعب دورا كبيرا في توعية الناس بحكم اعتماده على نهج الإصلاح الديني، ثم تحولت أحاديثه إلى دروس ونشريات دقيقة مباشرة، مكتوبة بأسلوب متميز سهل الفهم بعيد عن التعقيد. ومع الأيام تحولت الإذاعة بفضل الشيخ الجيلالي إلى مدرسة للتربية والتوجيه، تصلها يوميا عشرات الرسائل، حتى أصبحت برامجه أسبوعية قارة يجد فيها المستمعون الإجابة عن تساؤلاتهم الدينية والدنوية على أساس شرعي معتدل. وقد ابتدأت برامجه تلك منذ سنة 1940، ويحتفظ أرشيف الإذاعة إلى اليوم بكمية هائلة من تسجيلات تلك البرامج إلى اليوم. رصيد زاخر ونشاط علمي وديني دؤوب تمكن الشيخ عبد الرحمان الجيلالي من إنتاج عشرات الأعمال في مختلف الميادين الدينية، الأدبية، الفنية والتاريخية، جعلته يتحصل على أوسمة استحقاق من مؤسسات علمية متخصصة. كما حاز عضوية المجلس الإسلامي الأعلى غداة الاستقلال في لجنة الفتوى التي كان يشرف عليها الشيخ أحمد حماني رحمه الله. وقد عمل الشيخ عبد الرحمان الجيلالي مع نخبة من العلماء على إنشاء وتنظيم نِظَارات الشؤون الدينية بمختلف ولايات القطر، كما ساهم في تأسيس مجلة الأصالة الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى التي ساهمت مساهمة فعالة في الترويج لملتقى الفكر الإسلامي، كما كانت منبرا هاما للمناقشة الهادفة. للإشارة، فإن الشيخ الجيلالي قدم محاضرات في 14 طبعة من مؤتمر الفكر الإسلامي، كما كان عضوا فعالا في الديوان الوطني لحقوق التأليف. من أعماله رحمه الله ساهم الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بقلمه في الصحف والمجلات الجزائرية، كما ساهم في تزويد المكتبة الجزائرية بالعديد من العناوين الهامة، منها كتاب تاريخ الجزائر العام المنشور في جزئين، والذي يعتبر مرجعا لا يمكن لدارسي تاريخ الجزائر الاستغناء عنه، وهو الآن في طبعته الثامنة. ومن كتبه أيضا كتاب تاريخ المدن الثلاث: الجزائر، المدية، مليانة، وكتاب خاص بذكرى العلامة الدكتور بن أبي شنب، وكتاب حول العملة الجزائرية في عهد الأمير عبد القادر، وكتاب ابن خلدون في الجزائر. دكتوراه شرفية بتوصية من الرئيس بوتفليقة بتوصية من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كرمت جامعة الجزائر الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بمنحه شهادة دكتوراه فخرية، وقد عبر عن غبطته وابتهاجه الكبير بهذا التكريم الذي اعتبره من أهم المحطات في حياته في سلسلة عمره الطويل.