دكتور محي الدين عميمور بداية، أنا لا أعرف ما هو الزنباع، ولكن هذا المثال الشعبي فرض نفسه عليّ عندما قرأت رسالة وجهها لي، عبر "القدس العربي" الأستاذ الجامعي المغربي عبد الرحمن مكاوي، الذي حرصت على نشر مقاله في العدد الماضي من الصحيفة التزاما بحرية التعبير، وجاء في هذه الرسالة ما يلي، نصّاً : "أيها المداح المُعقّد، عوض الاهتمام بالمغرب أنصحك بقراءة جريدة الخبرالجزائرية التي تضمنت تصريحات السادة بن بيتور والإبراهيمي. لقد شهد شاهد من أهلها، فإذا لم تستحي (تستح) فافعل ما شئت، أو كما يقول المثل المغربي : اللي فيكم يكفيكم". وأجد نفسي مضطرا للعودة من جديد للحديث عن مخلوق أتصور أن انتسابه للجامعة المغربية العريقة هو إساءة لهذه الجامعة، وأنا أحرص هنا على التأكيد بأنني أتصور أنه لا يُمثل من قريب أو من بعيد الجامعات المغربية التي كانت دائما منارة للعلم وللمعرفة، ولقد عرفها جزائريون كثيرون ويحملون لها كل تقدير وإعزاز. ولعلي أقول أولا أن الجزائر لا يعيبها أن يكتب واحد من أبنائها نقدا لمسيرتها، وحرية التعبير في الجزائر مكفولة لكل من يريد، ويبقى الحكم هو القارئ وليس أجهزة القمع والبطش التي تعرفها بلدان كثيرة، لن أذكر بها المخلوق المذكور. ولقد كنت أريد الاكتفاء بما استعرضته في الحديث الماضي بشكل مختصر، احتراما للمساحة المُتاحة في الصحيفة وفي الوقت نفسه حتى لا أثقل على القارئ، لكنني مضطر اليوم إلى العودة إلى استكمال الحديث عن صور أخرى من إسفافه، لكيلا يظن من في نفسه مرض بأننا عاجزون عن إغلاق فمٍ من يتطاول علينا أو يُفكر في الإساءة إلى بلادنا أو تلويث صورة مسيرتنا الوطنية والنضالية. ولعلي أقول لمن يهمه الأمر في هذا الصدد، وأنا أتابع كثيرا مما يبث عند الأشقاء ومن الأشقاء، بأنه لا بيت يخلو من نوافذ زجاجية هشة، وبالتالي فإن الأحجار التي يقذفها البعض علينا لا يُمكن أن تمر دائما بدون ردود فعل، من المؤكد أنها ستفسد جلّ المحاولات المخلصة لإصلاح ذات البين، إذا كان هذا هو الهدف المنشود. ولا يُمكن بالتالي أن يحاول جامعي عاقل الدفاع عن السياسة المغربية تجاه قضية الصحراء الغربية بالهجوم الفج على الجزائر والقول بأن "السياسات الخاطئة جعلت من هذا البلد دولة فقيرة تستورد 70 في المائة من حاجاتها الغذائية"، كما قال المخلوق المذكور في مقاله المُخجل. ويُمكننا هنا أن نقول بأن الجزائر تشترى حاجاتها الغذائية بحرّ مالها، وهي لا تستجدي أحدا ولا تتسول من أحد، ودخلُنا يأتينا مما أنعم به الله علينا من نفط وغيره، لا من تجارة المخدرات وتهريب السلاح والمتاجرة في أرزاق المواطنين، ونتمنى أن نحقق الاكتفاء الغذائي يوما، ولكن ازدياد القدرة الشرائية للجزائريين، بحكم حركية التنمية، لا تمكننا أحيانا من مسابقة الزمن والانتصار في معادلة العرض والطلب، وهو ما نعترف به علنا ونعمل لتداركه. وبدلا من الحديث عن صلب القضية المطروحة التي كانت صُلب حديثي يقول المخلوق بأن "إحداث جمهورية وهمية (يقصد الجمهورية الصحراوية) كلف الشعب الجزائري ملايير الدولارات، وهو منهج أوصل الجزائر إلى حافة الإفلاس". وهنا أكتفي بنقاط محددة. 1 - أقام الصحراويون دولة تعترف بها نصفُ دُول إفريقيا وكثير من دول العالم خصوصا في أمريكا اللاتينية، بعد أن رفض الحكم في المغرب السماح لهم بتقرير مصيرهم، والاختيار بين الاستقلال أو الانضمام للمغرب. والبوليزاريو موجودة رسميا في أروقة الأممالمتحدة وفي العديد من العواصم الدولية. 2 - الجزائر، التي حققت استقلالها بدماء أبنائها وبدعم المخلصين من أشقائها وأصدقائها وضعت كل ثقلها لدعم حركات التحرير الوطني، خصوصا في القارة الإفريقية، وفاء منها لكل الذين دعموها في كفاحها الوطني. وما ننفقه في هذا المجال هو حق لرفقاء الكفاح أيا كانوا وحيثما كانوا، والشعب الصحراوي هو ممن يستحقون الدعم والتأييد. 2 - اجتازت الجزائر سنوات دموية في مكافحتها لإرهاب إجرامي مستورد الأفكار والأدوات صدره لنا أشقاء شحنوه بفتاوى التكفير وزودوه بأسلحة التدمير، تماما كما أمدوا خصومنا بكل ما يُمَكنهم من مضايقتنا والتضييق علينا. ولقد وقفنا وحدنا أكثر من عشرية في ظل عملية تشفٍّ حقيرة من البعض، ونحن نسترجع اليوم تدريجيا مسيرتنا التنموية، بإنجازاتها وإخفاقاتها، لا نغتر بتلك ولا نحبط بهذه، ونغفر ولكن لا ننسى. 3- قوارب الموت التي أشار لها المخلوق مأساة مؤلمة، لكنه تناسى أن بلاده تواجه نفس الوضعية بل وبدرجة أكثر خطورة، وأنا آمل أن يتمكن المغرب الشقيق من مواجهة المأساة، ولا أسمح لنفسي بالتشفي في أشقاء يعانون مما يعاني منه عدد من بلدان الجنوب لأسباب متباينة. 4 - خفضت الجزائر في أقل من عشر سنوات ديونها الخارجية من 36 مليار دولار إلى نحو سبعة مليارات، بفضل التعامل العقلاني مع مداخيل النفط، وبالتالي فباطل لغو الأستاذ الزائف عن أن الجزائر بعيدة عن "مراحل النضج السياسي والإقلاع الاقتصادي"، كما قال. 5 - تعيش الجزائر أحيانا نوبات غضب شباني ضد بعض صور الفساد، ويعيش شعبها وضعية اشمئزاز من فشل الطبقة السياسية العاجزة عن الاستجابة لمتطلبات المرحلة، والصحف الجزائرية تنشر كل هذا، وأحيانا بمبالغات يستغلها أصحاب النوايا السيئة من الخصوم، ولكننا لا نفتح الرشاشات على الجماهير ولا نقيم السجون لأصحاب الرأي، ونواجه مشاكلنا بإجراءات تنجح أحيانا وتفشل أحيانا، وهو ما لا نعتذر عنه لأننا لسنا في جمهورية أفلاطون، والتعريض بديموقراطيتنا الناشئة يُذكرني بقصة الجمل الذي يُعاير جملا آخر بنتوء على ظهره. ولقد استشهد المخلوق بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بأسلوب لا يليق بأستاذ وجامعي، فقد استعمل أسلوب "ويل للمصلين" وقال بأن القرار (يقصد ..الرأي) "يشير بصراحة وبدون التباس إلى وجود روابط سياسية وعقدية بين قبائل الصحراء وسلطان المغرب"، وهذا لعب بالألفاظ، حيث أن المحكمة تحدثت عن وجود "علاقات ولاء بين السلطان وبعض القبائل التي تعيش على أرض الصحراء، ومعروف أن علاقات الولاء هي انصياع ديني يتم على أساس بيعة لا تورّث، وتجدد عند كل تغيير للسلطان، والبيعة في العصر الحديث هي الاستفتاء، الذي رفضه المغرب لسنوات، ثم قبله بشرط أن يكون تأكيديا، وحتى هذا لم يتحقق لأنه وضع العراقيل في طريقه. ويؤكد رأي "لاهاي" أنه "لم يثبت للمحكمة وجود روابط سيادة بين المغرب والصحراء". ويزعم المخلوق أن المغرب طوى الملف عسكريا، وهذا بشهادة التقارير العسكرية العالمية المحايدة !!، ولكنه لا يعطينا فقرة واحدة من تلك التقارير، ويتستر على وجود جدار يفصل بين ما يحتله المغرب بنحو 140 ألف جندي مسلح، وبين بقية الصحراء، وبنسبة الثلثين إلى الثلث الذي يوجد فيه الصحراويون في مناطق من بينها منطقة تيفاريتي، والجدار مثيل لخط "بارلييف" وأقامه الجنرال الأمريكي "والترز" بتمويل عربي كريم جدا !! وبمساعدة مباشرة، كما قال "جون لامور" الأسبوع الماضي، من إسرائيل، وهو مزروع بأكثر من ثلاثة ملايين لغم مضاد للأفراد وللآليات. لكننا مازلنا نأمل أن يُطوى الملف فعلا لمصلحة كل الأشقاء. وبالمناسبة، لم أسمع عن تبخر قرارات منظمة الوحدة الإفريقية كما يدّعي المذكور، والمغرب ما زال خارج إطار الاتحاد الإفريقي، وهو ما نأسف له لأن المغرب عضو مؤسس لمنظمة الوحدة الإفريقية. ويقول المخلوق أن الصحراء الكبرى "تمتد جغرافيا من داكار إلى دارفور"، وهو أمر صحيح، وهو يطالب بتطبيق حق المصير على جميع سكان الصحراء الكبرى، ولقد قلت أن هذا حدث عندنا بالفعل في 1962، عندما استفتي الشعب عبر سهول الجزائر وجبالها وصحرائها ومدنها وأريافها، وعليه، إن صدق، أن ينادي بتطبيق ذلك في الصحراء الغربية. ويطالبني المذكور بأن أدعوَ حُكامي !! لفتح الحدود بين البلدين على سبيل التجربة ولمدة 24 ساعة، "آنذاك" كما يقول، "ترى بأم عينك تدفق ملايين الجزائريين والجزائريات إلى المغرب"، ونحن يسعدنا أن يتدفق الجزائريون على المغرب على حساب السفر إلى أوروبا، ويؤسفنا أن إغلاق الحدود البرية يسبب للأشقاء خسارة أربعة ملايير يورو سنويا، ولكن الحدود الجوية بين البلدين مفتوحة تماما، والطائرات تقلع يوميا لنقل من يريد عندما يريد، والحدود البحرية مفتوحة أيضا ولا قيود على حركة البواخر بين البلدين، وليست هناك قيود على سفر المواطنين، ومع ذلك لم نشاهد وضعية هجرة جماعية كالتي يقصدها الأستاذ الجامعي ضمنيا، وبخبث واضح. وستفتح الحدود البرية تماما عندما تزول الأسباب التي أدت إلى غلقها، ويُمكن إقامة نظام يضمن السيطرة على حدود طولها 1380 كيلو متر، بما يجعلنا نطمئن إلى أنها لن تكونا معبرا للتهريب بشكل عام، ولمصلحة الطرفين، وهذا ببساطة يتطلب تنشيط اللجان المشتركة بين البلدين، بدلا من البلاغيات ومحاولة تسجيل المواقف. وعندما يقول المخلوق ختاما لترهاته : "سياسة المهادنة والمساكنة لا تجدي نفعا أمام ظلمكم المتصاعد" أرد عليه بالتعبير المصري : "أعلى ما في خيلك .. إركبه". ولقد كنا في غنى عن الملاسنات، لكن يبدو أنها بالنسبة للبعض مثل الفيتامينات، وعليه، فلن نتردد في تزويد هؤلاء بها، وإن عدتم عندنا، وعلى العقلاء أن يلجموا سُفهاءهم. وما زلت أقول بأن علينا أن نكرم اتحاد المغرب العربي بدفنه، لأنه هيكل مشلول لا يُحقق أي فائدة لبلداننا، ولمجرد أن ما بني على باطلٍ باطلٌ.