تلك الفتاة الهادئة الوديعة التي طالما تمنيت أن أرتبط بها رغم أني لم أرها إلا مرات قليلة، عند زياراتها لنا في بيتنا، كانت صغيرة السن يوم خطبتها ولمست فيها حياء جميلا وأدبا رفيعا لم أره في فتاة من قبل، وبعد عدة شهور تم الزواج . عشت معها عدة أيام في نعيم، وذات يوم وبعد أن انتهينا من تناول الطعام الذي حضرته والدتي، أخبرتني بصوتها الهادئ أنها لا تعرف أي شيء عن الطبخ، فابتسمت وقلت لها سوف تتعلمين مع الوقت، فاختفت ابتسامتها وقالت: «كيف؟.. لا» وكشّرت وقالت بحدة: «لن أتعلم»، حاولت إقناعها بهدوء بأهمية هذا الأمر ففاجأتني بصرخة مدوية كادت تصم مسامعي، أصابني ذهول شديد عندما رأيتها تصرخ بدون توقف، أخذت أتوسل إليها أن تهدأ دون جدوى، ولم تتوقف إلا بعد أن هددتها بالاتصال بأبي ليرى هذه المهزلة، فعادت إلى هدوئها ورقتها.. لم يكن من الصعب أن أكتشف أنها كانت تدعي الرقة والوداعة، وأن صوتها هذا الذي كان سببا في إعجابي بها كان يخفي من خلفه زفيرا أعلى من زفير أي قطار على وجه الأرض، لقد أصبح كلامها كله أوامر وعصبية، ولم تعد تهدأ إلا إذا هددتها بالاتصال بأبي، فتعتذر بشدة وتؤكد أنها لن تعود إلى هذه الأفعال· سألت والدتها عن أمرها هذا، فقالت وهي تكاد تبكي، إن ابنتها قد أصيبت بصدمة عصبية في طفولتها أفقدتها الاتزان وجعلتها تثور لأقل سبب، لم أقتنع وسألتها لماذا لا تهدأ ولا ترتدع إلا أمام والدي، فأخبرتني أنها منذ طفولتها كان كثيرا ما يعطف عليها ويأتي لها بالحلوى واللعب، ومن أيامها وهي تحبه وتحترمه أكثر من أي إنسان آخر. يا إلهي.. إن والدي كان يعلم بحالتها ولم يخبرني، لماذا لم يمنعني من الزواج منها قبل أن أفاتحه بموضوع طلاقها، فورا قدر الله أن أستمع في المذياع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضي وصبر فله الرضا ومن سخط فله السخط»، نزل الحديث على قلبي كالماء البارد في يوم شديد الحرّ، فعدلت تماما عن فكرة الطلاق وفكرت أن هذه هي فرصتي الذهبية كي أنال رضا الله جل وعلا، بعد أن أذنبت في حياتي كثيرا، وقررت أن أصبر على هذه الزوجة عسى أن يصلحها الله مع مرور الوقت. تحمّلت الصراخ الدائم في المنزل، وكنت أضع القطن في أذني، فكانت تزيد من صراخها عنادا، إلى جانب الضوضاء التي لا تهدأ في الشارع الذي نسكن فيه، حيث يوجد أكثر من أربعة محلات لإصلاح هياكل السيارات ولأن عملي يتطلب هدوءا في المنزل، فقد كدت أفقد عقلي أمام هذا السيل الصاخب من الضوضاء، ولكن كنت دائما أتذكّر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كتبته أمامي على الحائط بخط جميل، بشحنة جديدة من الهدوء والصبر، وكان ذلك يزيد من ثورة زوجتي، وهكذا استمرت أحوالنا شهورا طويلة كدت أن أصاب بصدمة عصبية أشد من تلك التي أصابتها، أصبح الصداع يلازمني في كل وقت وأصبحت أضطرب وأتوتر جدا لأي صوت عالٍ، ونصحني إمام المسجد المجاور لبيتي ألا أدع دعاء جاء في القرآن الكريم، وهو «ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما»، حتى رزقنا الله بطفلنا الأول، وكان من نعمة الله علينا في منتهى الهدوء، لا يكاد يصدر منه صوت، بكاؤه حالم كأنه غناء وكأن الله عوضني به عن صبري خيرا، وفرحت به زوجتي جدا ورقّ قلبها وقل صراخها، وأيقنت أن همّي سيكشفه الله بعد أن رزقنا بهذا الابن الجميل. والآن وبعد طفلنا الثاني تأكدت من تخلص زوجتي تماما من أي أثر لصدمتها القديمة، بل ومنّ الله علينا فانتقلنا من سكننا القديم إلى منطقة هادئة جميلة لا نسمع فيها ما كنا نسمعه من قبل، لقد ازداد يقيني أن الصبر على البلاء هو أجمل ما يفعله المسلم في هذه الحياة، وأنه السبيل الوحيد للوصول إلى شاطئ النجاة. قصة ارسلها القارئ الوفي السيد فانوس