استفحل الحديث عن الجريمة مجتمعنا في الآونة الأخيرة وغطت صفحات الجرائد حوادث وجرائم دخيلة عن عاداتنا وتقاليدنا وتربيتنا والتي غالبا ما تؤكد التحقيقات أن السبب الرئيسي في وقوعها كان لانفلات كلمة سوء أو شتم من الجاني أو الضحية لتسيل الدماء وتزهق الأرواح وتخرب عائلات، وتخلف كوارث إنسانية بشعة بسبب لفظ لئيم كالسب والشتم مثلا أو اللعن والقذف أو رمي التهم جزافاً والغيبة والسخرية والتنابز بالألقاب، وما شابه ذلك من سلوكات بشرية وسلوكات لفظية نهى الإسلام عنها منذ قرون. فالعنف اللفظي أو الإيذاء بالكلمة ظاهرة يهرع علماء النفس والاجتماع إلى دراستها، والبحث عن أسبابها والتوصل إلى آثارها السلبية المولدة للعنف بكل أشكاله في المجتمع، وما هي وسائل القضاء عليها أو الحد منها كونها سهاماً حادة، تنفذ بعنف إلى النفس وتصيبها بجروح نازفة قد لا تبرأ، وإن شفيت فهي تخلف نفسا مجرمة لا تظهر إلا عند استفزازها. فالعنف اللفظي مهما تعددت صوره لم يكن يوما من الأيام فطريا، بل دوما سلوكا مكتسبا في النفس البشرية، فلم يكن الإنسان عنيفا يوم ولدته أمه، بل إن عنف الطبيعة وعسر الحياة وعنف الآباء هو من صنع العنف في داخله وصوره كيفما شاء، لنجد أهم العوامل المساعدة في تكوينه تتلخص جلها وأهمها في عوامل التنشئة الاجتماعية للفرد، وأولها التربية الأسرية، حيث يكون لتربية الوالدين دور كبير في اكتساب الأطفال سلوكيات آبائهم وأمهاتهم، فإن كانوا ممن يستخدمون العنف اللفظي في تعاملهم مع أطفالهم تعود الأطفال على هذا السلوك، وأصبح جزءاً من شخصياتهم في الكبر كأن يقول الأب أو الأم لطفله: (أتمنى أنك لم تولد)، (أنت غبي للغاية)، (أنت لا قيمة لك)، (أنت حيوان)، (لا فائدة في وجودك)، وغيرها من الألفاظ التي يكون وقعها قاسيا على نفسية الإبن. إنّ هذه الكلمات يصدّقها الأطفال، خاصة وإن سمعوها من آبائهم أو غيرهم ممن يحبونهم ويثقون بهم. كما يمكن للطفل أن يردّ مثل هذه الإهانات أو الإساءات بين الحين والآخر، إلا أنّ استمرار هذه الإهانات أو الإساءات يمكن أن تسبّب الضرر في شخصية الطفل. وبصرف النظر فيما إذا صاحب هذه الشتائم اعتداء جسدي، فإنّ آثارها ستكون مدمّرة، ثم يأتي بعدها الجو المدرسي، فإن كان يفرض في الجو المدرسي الانضباط من قِبل المدرسين وإدارة المدرسة في متابعة سلوكيات الطلاب، والمسارعة لمعالجة ظواهر لفظية غير مناسبة تظهر بين الطلاب، فهنا يتجنب الطلاب هذه المسالك،وإن كان المعلمون والإدارة لا يهتمون بمثل هذه المتابعة لهذه السلوكيات، فإنها تنتشر، وتنعكس على شخصياتهم في المستقبل، كما يحتل الشارع مكانة كبيرة في انتشار مثل هذه الظواهر، حيث يكون له أثر كبير في تلقي الأطفال لسلوكيات العنف اللفظي بين الأفراد في الكثير من الأحيان، لذا يلزم الحرص في متابعة الأبناء وفي من يخالطونهم لتأثيرهم الكبير في سلوكيات وألفاظ الأبناء، فالقرين بالمقارن يقتدي. آثارها على طفل اليوم ورجل المستقبل إنّ آثار الإساءة اللفظية كبيرة، ومن الممكن أن تعرقل بشكل كبير نمو الطفل العاطفي والنفسي والجسدي، فمن الممكن له أن يمرّ خلال حياته بحالة من العزلة،وضعف الثقة بالنفس، والاكتئاب والفشل لتلاحقه بالتالي أثناء مرحلة الشباب. فالأطفال الذين يجدون صعوبة في بناء علاقات ثقة مع الآخرين، والذين يجدون صعوبة في المدرسة، والذين يواجهون مشاكل تعاطي المخدرات والكحول، والذين يفكرون بشكل جدي بالانتحار، وكل ما يتعلق بالآفات الاجتماعية العويصة، كثيرا ما يكون أولئك من الذين عانوا من سوء المعاملة اللفظية، وينطبق الشيء نفسه على البالغين الذين يتعرّضون للإساءة اللفظية منذ النشأة، فطفل اليوم هو رجل المستقبل، فكيفما نشأ شب، وبالتالي كل هذه الحالات النفسية قد تولد في داخله شخصا عنيفا ومتوترا، يصبح بين الفينة والأخرى خطرا على من حوله باستخدامه ذلك العنف الداخلي غير المراقب من طرفه غالبا بحجة الدفاع عن النفس بمنطقه الذي تربى عليه، ويحدث ما نحن عليه من جرائم قتل وإحداث عاهات جسمية مستديمة واعتداءات يرفضها القانون والدين معا. كيف يمكننا أن نمنع الإساءة اللفظية ونقلص من حجمها؟ إنّ ما يجعل الإساءة اللفظية كمحور هدم لشخصية الطفل، هو قلة الوعي عند الكثير من الآباء والأمهات بمدى الضرر الذي ينتج عن كلماتهم، فمعظم الآباء والأمهات الذين يستخدمون الإساءات اللفظية عادة لا يفهمون مدى تأثير كلامهم، لهذا فإنّ إحدى استراتيجيات الوقاية الأولية والمهمة و لأساسية هو تثقيف الآباء والأمهات بأنّ الكلمات يمكن أن يكون لها ذات الأثر الذي قد تخلّفه صفعة أو أكثر من ذلك، لتأتي بعدها تدابير أخرى لتهيئة جيل سليم التفكير، خاصة ونحن مجتمع يعيش تحت راية أمة رسالتها الأخلاق. أما الأمر الثاني فهو التحذير منذ الصغر للأولاد من السلوكيات اللفظية السيئة (ألفاظ السب والشتم)، وعدم السكوت عليه عندما تصدر منه، وإظهار عدم الرضى لسماعها وتحذيرهم من الوقوع فيها مرة أخرى، وتحذيرهم من استعمالها ضد رفقائهم في الشارع أو المدرسة بالإضافة إلى التعريف بأن الألفاظ السيئة ليست من خلق المسلم، ولا من الشيم التي جاء بها الإسلام، فمحاولة غرس هذه المفاهيم القيمة عن طريق المدرسة، خاصة باعتبارها عاملا جد مهم من عوامل التنشئة الاجتماعية بعد المنزل. إن أهم أمر يجب القيام به للتخلص من الصفات السلبية هو اللجوء لذكر الله سبحانه وتعالى، والاستغفار في موقف التأزم، والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم،وتمرين النفس على تحمل الضغوط واحتساب الأجر من الله فيها، لقول الله تعالى (...فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، كل هذا أمام الصغير والكبير من أجل تهذيب النفوس المتمردة. رسالة الشريعة في محاربة العنف اللفظي إن السبيل الوحيد لتجنب العنف اللفظي والجلد بسياط الكلام بكافة أشكاله وألوانه، هو التخلق بالأخلاق الإسلامية السامية التي بيّنها لنا القرآن الكريم، وجسّدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أثنى عليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. حقيقة أن كلاً منّا يمارس بعضاً من هذا السلوك الخاطئ بمستويات متباينة،وبطرائق تتفاوت حدتها حسب الشخصية أو الموقف، أو بهما معاً، في الأسرة الآباء مع أبنائهم، رب العمل مع موظفيه، عند إشارة المرور بين السائقين، في المدارس والجامعات في المستشفيات، في كل مكان يتعامل فيه البشر مع بعضهم. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن كيف نرد على من يتطاول علينا بالألفاظ المؤذية، نقابله بالترحاب وندعو له بالصحة والعافية؟ إن حسن التصرف في مثل هذه المواقف وامتصاص غضب الآخر هو المطلب، مع الاحتفاظ بالكرامة وعدم تقبل الإهانة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ففي الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليك، قال وعليكم، فقالت عائشة السلام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف أو الفحش، قالت أوَ لم تسمع ما قالوا، قال أوَ لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في"، ما أحلمك يا رسول الله وما أرفقك، فهؤلاء اليهود الذين أمعنوا في إيذائه بالقول والفعل، وحاولوا قتله، وسحروه، ودسوا له السمّ، لم يسبهم ولم يشتمهم، وحاشا أن يكون كذلك، فلم يكن صلى الله عليه وسلم فحّاشاً ولا لعّانا ولا سبّابا، ولكنه أيضا لم يقبل إهانتهم فرد عليهم بحكمة وحسن تصرف. قال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، إن إتباع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل اللفظي مع أهل بيته ومع أعدائه، كفيلة بالقضاء على ظاهرة (العنف اللفظي)، ويتجلى لنا هذا في حسن التربية، وحفظ اللسان وما لها من آثار إيجابية، يقول أحد العلماء النفسانيين العرب وفقهاء الدين "إن التقوى لها منزلة عظيمة في السلوك والقول السديد، يدخل فيها أمور كثيرة في مقدمة ذلك كلمة التوحيد، والصدق في القول والكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة، ويدخل في ذلك القول اللين وسلامة اللسان من القول البذيء، وليس هناك شيء يأسر القلوب مثل الكلمة الطيبة والبعد عن العنف في القول والفظاظة في الخطاب. وخلاصة القول إن الله عز وجل أنعم علينا بنعمة النطق والتعبير عن الرضا والسخط، والبوح بالمشاعر، والأحاسيس، فشكر هذه النعمة صيانتها وتسخيرها للحق، وتعويد اللسان على حسن القول، ورب كلمة قالت لصاحبها دعني".