لا تزال مهنة تسلق النخيل تنتشر بكثرة في أوساط المزارعين عبر واحات مدينة غرداية، رغم تراجع ممارستها حاليا واقتصارها على عدد محدود من الأشخاص المتقدمين في السن، ما يرسم تساؤلات بشأن مستقبل هذه المهنة المتوارثة عبر الأجيال، وصارت الآن مهددة بالتلاشي، بفعل عدم تمتعها بأي اهتمام بين الأجيال الجديدة التي تفضل ممارسة مهن أخرى تكون في نظرهم أكثر ربحا وتحصيلا للمال، في منطقة تنتج أنواعا جيدة من التمور، أشهرها «دڤلة النور» أحد أفضل أنواع التمور عالميا. تشتهر مهنة متسلق النخيل ذات الصلة بالنشاط الزراعي، في غرداية بفعل كثافة واحات النخيل هناك، حيث يرى في هذا الصدد الحاج بشير (72 عاما) المتمرس بمهنة تسلق النخيل، أنّ الأخيرة من المهن الصعبة وتحتل بحسبه مكانة هامة على صعيد تطبيق تقنيات زراعة ورعاية النخيل المثمر، ويضيف الحاج ل«السلام» أنّه عادة ما يقوم عقب الانتهاء من عملية جني التمور بمعالجة وتنظيف أشجار النخيل المثمر، وذلك بإزالة الأوراق الجافة (الجريد) باستعمال منشار أو آلة حادة كما يقوم بنزع الليف (بقايا جذع النخلة) واستئصال بقايا العراجين الجافة. يشرع المتسلقون بداية من شهر جويلية من كل سنة في جني الكميات الأولى من التمور من نوع «النصف الناضج» المعروفة محليا ب«المنقر»، وهو صنف يقبل عليه السكان بكثرة ويتم طرحه للبيع بأثمان غالية. ويعتبر متتبعون لمهنة تسلق النخيل، أنّ عدم الاهتمام أثر كثيرا عليها، خصوصا مع نفور الجيل الجديد منها وهو ما خلّف تناقص اليد العاملة المحلية من شريحة الشباب، ما يستدعي التركيز أكثر على وسائل التحفيز والتنظيم عن طريق إدماج وسائل عمل جديدة وعصرية تمكن ممارسي مهنة تسلق النخيل من العمل في ظروف أفضل وأكثر سلامة، على نحو يساعد كذلك على إدامة هذه المهنة التقليدية التي خلفها الأسلاف في مجال نشاط زراعة النخيل. ويشرح الحاج أنّ مهنة تسلق النخيل لا تقتصر على جني التمور، بل تتعدى ذلك وتستمر لأشهر طويلة متصلة، حيث يتم استخدام مسحوق الطلع لتلقيح أشجار النخيل المنتج، وهي خطوة على قدر كبير من الأهمية تمارس دائما بالطرق التقليدية من طرف متسلقي النخيل الذين عادة ما يرددون أثناء هذه العملية، أهازيج تراثية مصحوبة باستخبارات تقوم على الصلاة والتسليم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أملا في أن تعطي النخلة إنتاجا وفيرا من التمور. وينبّه الشيخ إسحاق (67 عاما) من منطقة ميزاب، أنّ عموم متسلقي النخيل يقلمون عراجين التمور ويعدلونها، كما يتوخون الرقابة الدائمة لنمو عراجين التمور التي يتم وضعها فوق الجريد الأخضر للنخلة بغرض ضمان توازن العرجون بطريقة مريحة، تحميه من أي انكسار محتمل بفعل ثقل وزنه قد يضر بما يحمله من محصول. ويعمد متسلقو النخيل إلى معالجة النخيل من الطفيليات والحشرات الضارة التي عادة ما تصيب محاصيل التمور، ما يتطلب توفر مهارات خاصة تفرض جلب عاملين من مناطق بعيدة، واللافت أنّ هؤلاء غالبا ما يقترحون أسعارا زهيدة بحسب عدد النخيل المرغوب في تسلقه. ويجمع الممارسون على كون تسلق النخيل مهنة مرهقة بدنيا وهي تتطلب أن يتمتع ممارسها متمتعا بلياقة عالية وطول نفس يسمح له بالوصول إلى أعلى قمة النخلة، مزوّدا بالمستلزمات الضرورية، ويتعلق الأمر بالآلة القاطعة أو المنشار أو المنجل، وهي معدات توضع داخل حافظة مصنوعة من القماش الخشن، ويلجأ متسلق النخلة أيضا ومن باب تأمين نفسه من أخطار السقوط، إلى الاستعانة بحبل من الحجم الخشن يتحزم به أثناء عملية التسلق، حيث يشد به حزامه بجذع النخلة بطريقة تمكنه من الصعود والنزول بشكل مريح وآمن. ويوضح الشاب جلول (38 سنة) أحد محترفي متسلقي النخيل، أنّ هذه المهنة خطيرة، لكن السلطات لم تصنفها إلى غاية الآن ضمن حوادث العمل، فضلا عن كونها غير خاضعة لشروط التأمين كغيرها من باقي المهن الأخرى، ما يجعل غالبية متسلقي النخيل يعانون من سوء وضعهم المعيشي، ويطالبون بترقية مهنتهم إلى جانب استفادتهم من الرسكلة عبر التكوين المستمر وتعميم تقنيات زراعة النخيل، حتى يتم تفادي الحوادث التي قد يتعرض لها المتسلق. وتبعا لتحولات اجتماعية - اقتصادية متسارعة، والمبالغ المتواضعة التي يتقاضاها ممارسو هذه المهنة، برزت حاليا مشكلة العثور على متسلقي النخيل وصارت تطرح بحدة في مواسم جني محاصيل التمور، التي عادة ما تنظم في فصل الخريف أي خلال الأشهر الأخيرة من كل سنة، حيث تحتاج هذه العملية إلى خبرة مهنية تضمن سلامة المحاصيل، كما يجنح أصحاب الاختصاص إلى ربط عرجون التمر قبل قطعه بواسطة حبل وإنزاله إلى الأرض بطريقة سلسة تضمن تماسكه، فيما يتم وضع قطعة كبيرة من القماش بحوض النخلة للحفاظ على حبات التمر المتساقطة. وفضلا عن مكانتها لدى الجزائريين في سائر الأيام، فإنّ التمور تحظى بشعبية أكبر على مائدة رمضان، ونادرا ما تخلو الأخيرة من التمور، حيث يقبل الصائمون على الإفطار بتناول التمر واللبن في أغلب الأحيان، قبل أداء صلاة المغرب، ويحرص أرباب البيوت على جلب كميات كبيرة من «دڤلة نور». إلى ذلك، يشير مهنيو التمور، إلى نقص الدعم اللوجستيكي، ضعف قدرات التخزين وعدم الترويج بالشكل المأمول، وهي اختلالات تنضاف إلى مشكلات أخرى كعدم تنظيم مهنة التصدير، غياب السرعة في ضمان نقل البضائع المنفردة بكونها سريعة التلف، وشبح المضاربين والوسطاء، يحدث هذا رغم إقدام الحكومة على تصنيف التمور ك«فرع استراتيجي» برسم المخطط الإنمائي (2010 2014). ويقول بكوش التيجاني مسيّر تعاونية لإنتاج التمور بمنطقة تقرت الجنوبية، إنّ النقائص الميدانية محسوسة ويجملها في محدودية ترسانة التغليف والتخزين التي تستخدم في جني التمور وتكفل حماية المنتوج، فضلا عن الأدوية المضادة لداء البوفروة الذي أضحى يهدّد النخيل بكثرة، تماما مثل مرض «البيوض» الذي يهدد التمر، بعد أن أتلف كثير من نخيل المغرب، وبات المزارعون في غرداية يشتكون من شبح البيوض وما يتسبب به الأخير من تآكل وخسائر. كما يُدرج التيجاني أيضا افتقاد القطاع إلى هامش مناسب من وسائط النقل، وما زاد الطين بلة بطء القروض المصرفية الممنوحة للمزارعين، وهو ما يحول بحسبه دون الارتفاع بإنتاج التمور إلى مستويات قياسية ترقى بالقطاع إلى مستوى مصدر حيوي لصادرات الجزائر خارج المحروقات. بدوره، يثير أحمد رويني مسؤول تعاونية للتمور بالمنطقة، مشكلة قلة الترويج، رغم امتلاك الجزائر لثروة هائلة من التمور تستحق التثمين وإعطائها المكانة اللائقة بها، وهو ما يؤيده نذير حليمي أحد المتعاملين الذي يستهجن عدم التعريف بالتمور، مثلما تفعل دول الجوار، ويجزم حليمي أنّ استفادة المنتوج المحلي من الإشهار اللازم، سيفتح له آفاقا واسعة إقليميا ودوليا. من جانبه، يقرّ سليم حدّود رئيس المجلس المهني المتعدد المهن، بمعاناة منتجي التمور من عوائق بالجملة مثل ما ينتاب قضية التأمينات، لا سيما مع هاجس الإصابات الذي يطارد القائمين على جني التمور مع تعاقب المواسم، والنقص المسجّل على صعيد الأغلفة البلاستيكية المخصصة للعراجين الشبكات الواقية للتمور من الحشرات، كما يضيف حدّود على إعاقة مشكلة النقل البحري لتسويق التمور خارجيا. ويشير كثير من المختصين والمزارعين، إلى خطر الطفيليات الذي بات يتهدد بشكل قوي نحو 1.8 مليون نخلة، ما يشكل تهديدا صريحا لثروة التمور في ظل شيوع أمراض «البيوض» و«البوفروة» و«سوسة التمر» وبعض الآفات الطفيلية والعنكبوتية وكذا الطيور المضرة بالتمور، وأبدى خبراء مخاوف متعاظمة إزاء ما قد يترتب عن زوال أكبر ثروة زراعية في غرداية، سيما مع ما تمثله من عنصر أساس في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية. يُشار إلى أنّ الجزائر تمتلك 4.7 مليون نخلة منتجة وتتموقع كثاني أكبر مصدّر للتمور عالميا بعد تونس، بمعدل إنتاج يفوق 550 ألف طن. وتتبوأ ولاية غرداية رفقة بسكرة الريادة لاحتوائهما أكبر وأجود منتجات التمر، سيما «دقلة النور» أفضل أنواع التمور عالميا التي تستورد معظمها دول أوروبية وتستفيد منه الجالية المسلمة، خاصة في شهر رمضان من كل عام.