بقلم: فهمي هويدي حين تصبح البذاءة وجهة نظر تتعدد فيها الاجتهادات؛ فذلك يعني أن ثمة خطأ ما في خطاب المرحلة وثقافتها. أقول ذلك بمناسبة (الهاشتاج) الذي يروج له البعض هذه الأيام في مصر واشتهر حتى تجاوز مؤيدوه أكثر من أربعة ملايين كما ذكرت مواقع التواصل الاجتماعي. مع ذلك فإنني أستحي أن أذكره رغم أن الجميع صاروا يعرفونه، بحيث أصبحت أول ما يرد على الخاطر في الوقت الراهن، بمجرد ذكر كلمة (هاشتاج). لقد صدمني مجرد إطلاق المصطلح، وأدهشني انتشاره في أوساط المعارضين المصريين، واعتباره صيغة (معتمدة لإعلان موقفهم إزاء الانتخابات الرئاسية. ولاحظت أن وسائل الإعلام الأجنبية اهتمت به فعرضته وتتبعت خلفياته في الواقع المصري، وتضاعفت دهشتي حين وجدت من يدافع عنه، ويسوغه من الناحية الشرعية؛ الأمر الذي استنفر طرفا آخر وجد فيه مجافاة للشرع، وعدوانا على حدوده. الأولون قالوا بأن المصطلح إذا كان يصف واقعا، فهو تعبير يتحرك في دائرة الحلال. والآخرون استنكروه استدلالا بالحديث النبوى الذي يقول إن المؤمن ليس بسبِّاب ولا لعَّان ولا فاحش ولا بذيء. أضافوا أن ثمة خطأ في الاستدلال بالتسامح في الجهر بالسوء الذي يبيحه النص القرآني (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) - الآية 148 من سورة النساء. إذ ليس المقصود أن يطلق العنان لكل محتج أو غاضب أو حتى مظلوم لكي يجرح الآخر دون ضابط أو رابط. لكن المراد به تحديدا التسامح مع المظلوم إذا احتد فى عرض مظلمته. لكنه في كل أحواله ينبغي أن يظل ملتزما بحدود معينة لا يتجاوزها. ينسب إلى ابن حزم الأندلس المتوفى في القرن العاشر الميلادي قوله إن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال. ومن جانبي أضيف أن انفلات اللسان أيضا علامة على اعوجاج الحال. وإذا جاز لي أن أعرف البذاءة في التعبير باعتبارها كل ما من شأنه خدش الحياء العام، فإن ذلك يعد مدخلا يسمح لنا بأن نفكر في الأمر بطريقة تتجاوز المصطلح إلى البيئة التي أفرزته والمناخ الذي ظهر فيه من هذه الزاوية أزعم أن إطلاق المصطلح يعد من تجليات الهبوط المروع أحيانا في مستوى الحوار في مصر. وهو هبوط يبلغ أدنى مستوياته مع المخالفين. خصوصا في غيبة ثقافة الحوار وتقاليده المتعارف عليها في المجتمعات الديمقراطية، أضف إلى ذلك أنه في ظل التطور الهائل في ثورة الاتصال أصبح بمقدور كل فرد أن يعبر عن رأيه بصورة مباشرة، دون أن يمر كلامه بأي مراجعة أو مصفاة كما كان يحدث في الماضي؛ الأمر الذي فتح الأبواب على مصارعها لكل مستويات التعبير في هبوطها وصعودها. ورغم الفوائد الجليلة التي حققتها منابر التواصل الاجتماعى سواء على صعيد حرية التعبير أم قدرتها على تجاوز الحدود والقيود، فإن التجربة أثبتت أنها سلاح بحدين، يتعايش فيه النفع مع الضرر رغم أن كفة النفع أرجح. في غيبة الثقافة الديمقراطية أصبح قمع الآخر المختلف هو القاعدة. واقترن القمع بالاستباحة التي تتجاوز تقييد حرية الآخر إلى النيل من كرامته والسعي لاغتياله معنويا، وفي المراحل المبكرة كانت السلطة تباشر تلك الاستباحة في حدود معينة من خلال مؤسساتها وأساليبها المختلفة. في وقت لاحق اتسعت الدائرة حتى دخل الإعلام إلى الحلبة حتى أصبحت منابره وتقنياته أنجع وسائل الاستباحة والاغتيال المعنوي. بعد ذلك دخلت الجماهير على الخط وأصبحت طرفا في الصراع. من خلال مواقع التواصل التي توفرت لها. خصوصا بعدما دخلت شرائحها الواسعة في السياسة عقب ثورة 25 يناير، ليس في رأيه فحسب، وإنما في كرامته وربما عرضه أيضا. وفي الخبرة المصرية فإن ذلك لم يعد مقصورا على أطراف الصراع السياسي الداخلي وحده وإنما صار يشمل أيضا خلاف الدولة أو القيادة المصرية مع الدول الأخرى، وفي الحالتين لم تعد هناك حدود للاستباحة والتجريح. هذه الظاهرة كانت أوضح ما تكون في عهد الدكتور محمد مرسي، حين كانت الحريات العامة مطلقة وبلا سقف، وحين كانت أغلب المنابر الإعلامية في الموقف المعارض له. وهي الأجواء التي وصلت فيها الاستباحة إلى أبعد حدودها. وكان رئيس الدولة على رأس الذين تم استهدافهم، حتى أصبح تجريحه السخرية منه فقرة ثابتة في حلقات برنامج باسم يوسف الأسبوعية، وكانت العبارات البذيئة تغطي جدران قصر الاتحادية، وألقي البرسيم أمام مسكنه حين وصف بأنه من الخرفان، وحين رفع بعض المتظاهرين بعض الملابس الداخلية النسائية في مظاهرة توجهت إلى مقر أحد وزراء الحكومة، فإن أحد المثقفين المحترمين امتدح ذلك، واعتبر في مقال نشر بالأهرام أنه (إبداع) في التعبير عن الاحتجاج. هذا السلوك كان مقبولا ومباركا في حينه من جانب النخب والمنابر الإعلامية المخاصمة، كما أنه جذب بعض شرائح الجماهير المعارضة. وحين استقر فإن حملة الاستباحة استمرت مستخدمة اللغة الهابطة والمفردات البذيئة في مواجهة كل الذين عارضوا النظام الذي استجد بعد الثالث من يوليو 2013، دون أن يستنكر ذلك أو يستهجن. إلى أن صرنا في الوضع الحرج الذي نحن بصدده. حين ارتدت بعض أسهم التجريح إلى صدور مطلقيها واستهدفت البذاءة من حبَّذته الأغلبية وتعلقت به. وصار الذين باركوا الفحش في القول في الماضى يلوون شفاههم معبرين عن الاستهجان والقرف مما يسمعون هذه الأيام. ولا أعرف إن كانوا قد اقتنعوا بأن للإنسان كرامة ينبغي أن تصان معارضا كان أم مؤيدا، لكنني أجد أن من المناسب أن ننبههم على ذلك الآن لعلهم يعتبرون. ولعلي لست بحاجة إلى التركيز بأنني في ذلك أدافع عن قيمة وليس عن شخص.