بقلم: محمود سلطان ملكية "المشروع الإسلامي" جُعلت حصريا على الإسلاميين وحدهم، وربما كانت الحركة الإسلامية معذورة في ذلك، لوجود تيارات أخرى لكل منها رؤيتها الخاصة: يساريون، ليبراليون وما شابه من حركات ثقافية لا دينية. لكن ثمة مفارقة ربما تحتاج إلى تأمل، وهي أن القوى العلمانية مجتمعة لم تتحدث عن "مشروع": لم نسمع مثلا عن "المشروع العلماني" من العلمانين أنفسهم، إلا إذا دافع الإسلاميون عن "المشروع الإسلامي" ومسوغات وجوده، ونسمع منهم بأن الأخير، جاء لمواجهة "المشروع العلماني". بمعنى: أن فكرة "المشروع" لم تكن مطروحة في المحاضن العلمانية، بينما كانت حاضرة وبقوة في العقل الجمعي للنشطاء الإسلاميين، وهي مفارقة لم يلتفت إليها المختصون في الملف الإسلامي، رغم أهميتها في استخلاص أكثر من درس في تصحيح ما استقر في أداء الإسلاميين من أخطاء، أساءت ل"المشروع الافتراضي"، وعلقت العمل به ربما لخمسة عقود لاحقة على الأقل. لم يع الإسلاميون أن العلمانية ليست "مشروعا" وإنما "سلوك حياة" قد يستبطنه شيوخ ودعاة وأئمة مساجد دون أن يدروا، ولقد حاول المفكر المصري الراحل د. عبد الوهاب المسيري، أن يشرح للإسلاميين هذا المعنى في أكثر من دراسة، وتكلم عن العلمانية "الجزئية" و"الشاملة" ثم تحدث ببراعة شديدة عن أخطر أنواع العلمانية وهي التي سماها "البنيوية الكامنة" وهي أخطرها على العالم الإسلامي ذاته. يقول المسيري وفي دراستنا في العالم العربي والاسلامي للعلمانية عادة ما نركز على التعريفات والمصطلحات المعجمية والمخططات الثقافية والممارسات الواضحة، وننسى أن العلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية أو أفكار شائعة، وتحولات اجتماعية تبدو كلها في الظاهر بريئة أو مقطوعة الصلة بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها في واقع الأمر تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك مَن يتبناها وتوجهه وجهة علمانية. وقد وصفنا مثل هذا المنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تولد العلمانية (بشكل كامن) بأنها جزء عضوي لا يتجزأ من بنية هذا المنتج وهذه الأفكار وهذه التحولات لا تضاف إليه، ولا يمكن استخدام هذا المنتج أو تبني هذه الأفكار أو خوض هذه التحولات دون أن يجد الانسان نفسه متوجهاً توجهاً علمانياً شاملاً، ولذا، سميناها (بنيوية). والصفات البنيوية عادة ما تكون كامنة، غير ظاهرة أو واضحة، وهي من الكمون والتخفي بحيث إن معظم مَن يتداولون نوعاً بعينه من المنتجات الحضارية، ويستبطنون الأفكار البريئة، ويعيشون في ظلال التحولات الانقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية لا يدركون أثرها ولذا، سميناها (علمنة بنيوية كامنة). بل إن كثيراً ممن يساهمون في صنع هذه المنتجات وصياغة هذه الأفكار وإحداث هذه الانقلابات قد يفعلون ذلك وهم لا يدركون تضميناتها الفلسفية ودورها القوي في صياغة الإدراك والسلوك. ولذا، يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهر أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم." انتهى. المسيري في مواضع اخرى شارحة لهذا المعني، فسر كيف يتصرف داعاة إسلاميون ك"علمانيين" دون أن يدروا، بسبب استبطانهم لما سماه ب"العلمانية البنيوية الكامنة". لم يع الإسلاميون، هذا المعنى واستغرقهم وكما قال المسيري البحث في المسميات والمصطلحات والمخطات واختزال العلمانية بوصفها "مشروعا مسيحيا" فتورطوا في البحث عن مشروع مقابل ونسبوه إلى "الإسلام".