بقلم: الشيخ أبو إسماعيل خليفة لقد دار الدهر دورته ومحا الزمان أثره وفارقنا شهر رمضانَ الكريم فراقَ الحبيب لحبيبه وما أشد فراق الأحبة وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا رمضان لمحزونون. فهل يا ترى اتخذنا من رمضانَ قاعدةً للمحافظة على الصلاة في باقي الشهور ومنطلقاً لترك المعاصي والذنوب؟. وهل تخرجنا من مدرسة رمضان بشهادة التقوى؟. إن لذلك علامة وعلامته مواصلة العمل الصالح والاستمرار عليه فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد وفّقه لعمل صالح بعده فالحسنات تتلازم ويدعو بعضها إلى بعض وكذلك السيئات قال بعض السلف: ثواب الحسنة الحسنة بعدها). وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت الحسنة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات وإذا رأيت السيئة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات). أي: أنهنّ عناوين والشيء يدل على غيره. فيا من صمت رمضان وقمته ها قد انقضى شهرُ القيام فلا تَقْصُر عنه سائرَ العام فإن من أعظم الجرم وأكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسراً وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم.. فإياك.. إياك أن تنقض عهدك مع الله وتبطل عملك واحذر أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.. قال الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). النحل:92 قال أهل التفسير: إن المرأة المقصودة في الآية الكريمة هي امرأة عاشت في زمن ما قبل الإسلام (الجاهلية) واسمها رابطة أو رايطة أو ريطة من بني تميم وكانت امرأة تلقب بالجعراء أو الجعرانة وإليها ينتسب الموضع المسمى بالجعرانة بين مكةالمكرمة والطائف وهو ميقات للإحرام. وسميت أيضا بخرقاء مكة وكان يضرب بها المثل في الحمق.. فما قصة حمقها؟. لقد كانت هذه المرأة تجتمع كل يوم هي ومجموعة من الجواري والعاملات لديها فتأمرهن بالعمل على غزل ونسج الصوف والشعر ونحوهما ثم إذا انتصف النهار وانتهين من أداء عملهن في الغزل أمرتهن بنقضه أي إفساد ما غزلنه وإرجاعه أنكاثاً بمعنى أنقاضاً أو خيوطاً وذلك بإعادة تقطيع الغزل إلى قطع صغيرة ثم تنكث خيوطها المبرومة فتُخلط بالصوف أو الشعر الجديد وتنشب به ثم تضرب بالمطارق أو ما شابه على أن يقمن بغزله مجدداً في اليوم التالي وهكذا تجهد هذه المرأة نفسها وعاملاتها بالعمل ثم تفسده بحمقها وخراقتها. انظر تفسير الطبري 17 /283 وتفسير ابن كثير 4/599. ألا فاحذر أيها المؤمن أن تنقض عهدك مع ربك اجعل أيامك ولياليك كلَّها كأيام رمضان ولياليه في تعلُّق القلب بالله تعالى ودعائه وذِكره وحافظ على الفرائض وأتبعها بالنوافل والزم القرآن تلاوةً وحفظًا وتدبرًا وعملاً فلئن فارقت شهر التقوى فإن الله تعالى يجب أن يُتَّقى في كل حين فليست التقوى مقيدة بزمان ولا مكان وعمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله قال الحسن البصري رحمه الله: (إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ قوله عز وجل: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). الحجر:99 ولقد سئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان فإذا انقضى ضيعوا وفرطوا فقال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان). فاجعل -أخي- من نفحات شهر رمضان ونسماته المشرقة مفتاح خير لسائر العام واستقم على طاعة ربك وداوم ولو على القليل من العمل الصالح فما أوحش ذلّ المعصية بعد عزّ الطاعة! الزم تقوى الله واعلم بأنها أكرم ما أسررت وأجمل ما أظهرت وأفضل ما ادخرت جعلني الله وإياك من المتقين..