54 سنة على أحداث 17 أكتوبر 1961: *** مساهمة بقلم: الشيخ أبو إسماعيل خليفة من سُنن الله التي تجري عليها الوقائع والحوادث المسماة في القرآن بأيام الله تحتاج إلى من يستخرجها ويذكِّر الناس بها وهي تجري على البر والفاجر والمؤمن والكافر قال تعالى عن نبيه موسى على نبينا وعليه السلام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِكُلِّ صَبَّار شَكُور ). إبراهيم:5. ففي هذه الآية الكريمة توجيهٌ إلهي لنبي الله موسى على نبينا وعليه السلام أن يذكّر قومه ب(أيام الله). فما المقصود بهذه الأيام؟ الأيام من الناحية الزمنية كلها أيام الله فهو سبحانه خالق الزمان والمكان وخالق كل ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح إنما المقصود بالأيام تلك الأزمنة التي إنتصر الله تعالى فيها لأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وتحقّقت فيها العزّة لدين الله والنصر لأوليائه ولقيم الحق وعلى هذا يكون معنى الآية: ذكّرهم بأيام انتصارات الأنبياء والمؤمنين على أولئك الظالمين المعاندين. فكل يوم حصل فيه حدثٌ مصيري في تاريخ البشرية أو تاريخ مجتمع من المجتمعات فإن ذلك اليوم يُعدُّ من أيام الله لما فيه من عِبَر ودروس ومواعظ يتعلّم منها الإنسان وتتعظ منها الشعوب والمجتمعات.. أيام لا تُنسى.. عباد الله: وإن في تاريخ وطننا لأياما خالدة ترسّخت في ذاكرة هذه الأمة وإفترشت قلوب أبنائها تروي مسيرة هذا الوطن الغالي على إمتداد التاريخ. إنها محطاتٌ ناصعةٌ ومنعطفاتٌ تشكّل لحظات مصيرية تؤرّخ لهذا البلد العظيم الذي إرتوت أرضه بدماء من ضحّوا بحياتهم في سبيل أن ننعم بالحرية والإستقلال... وما يوم 17 أكتوبر 1961م إلا محطّة من أهم المحطات في تاريخ الجزائر التي تستحق كل الإهتمام والتقدير لإستلهام الأسلوب الفريد من نوعه في ثورة التحرير الجزائرية وذلك في قهر المستحيل وجعله ممكنا.. أيها الأعزاء: في الخامس من أكتوبر 1961 أصدر محافظ شرطة باريس (موريس بابون) أمرا بحظر تَجوال الجزائريين من الساعة الثامنة مساء وحتى الخامسة والنصف صباحا وأعتبر المهاجرون الجزائريون وقتها هذا الحظر إجراء عنصريا وتعسفيا. في مثل هذا يومنا هذا وفي قلب باريس خرج الآلاف من المهاجرين الجزائريين عزّلا امتثالاً لأوامر قادة الثورة الجزائرية في مظاهرات سلمية قدموا من عدّة مدن فرنسية مختلفة من أجل الدفاع عن حريتهم وكرامتهم مندّدين بقرار الحظر ثم ليبلّغوا السلطاتِ الفرنسية بمطالب عبّرت عنها شعاراتهم كان أهمّها (فليسقط حظر التَّجوال تفاوضوا مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الإستقلال للجزائر تحيا جبهة التحرير). وهذه المظاهرات لم تكن وليدة الصدفة بل كانت تعبيرا صادقا على مدى الوعي الذي وصل إليه الشعب الجزائري في ظل الهيمنة الإستعمارية التي حاولت بكل ما أوتيت من قوة طمس مقوّماته وإخماد وطنيته لكنها لم تفلح في ذلك نظرا لإيمان هذا الشعب بقضيته العادلة التي كانت تتطلّب منه نضالا مستميتا وشجاعة نادرة.. جريمة.. ولكن أيدي السفاحين واجهتهم بالحديد والنار والقتل وإلقاء العديد منهم من جسر (سان ميشال) إلى (نهر السين) وهم أحياء وزجّ بآخرين في السجون والتفنن في تعذيبهم. ما كان ذنبهم إلا أنهم خرجوا في مسيرة سلمية إحتجاجا على إصدار مرسوم حظر التجوّل الذي فرضه السفاح (موريس بابون)على الجزائريين في ظل ديمقراطية غربية وكانت نتيجة الجريمة في هذا اليوم والأيام الثلاثة الموالية: أكثر من 300 قتيل ومئات المفقودين وأكثر من 1000 جريح و14.094 جزائري في مخافر الشرطة الفرنسية تحت التعذيب. فعلا.. كانت مظاهرات 17 أكتوبر 1961 حلقة مهمّة في تاريخ الثورة التحريرية فلقد هزّت فرنسا من الداخل لأنها كانت تعبيرا صادقا عن قوة وإيمان الجالية المهاجرة بحتمية ثورة نوفمبر وتحدّيا كبيرا لأعتى قوة إستعمارية وتحسيسها بأن إرادة الشعوب لا تقهر. أيها الأعزاء: إن يوم 17 أكتوبر 1961 محطّة من تاريخ الجزائر كتبت بباريس وستبقى راسخة في أذهاننا تخليدا لذكرى الشهداء الذين كانوا يدافعون عن حقهم في المساواة وحقهم في الإستقلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها.. واليوم مثل الأمس يوجد شباب قادرون على رفع كلّ التّحديّات مهما كانت صعبة لأنه لا مستحيل مع الأمل والجزائر تستحق كل التضحيات من أبنائها الذين لا يمكنهم أبدا أن يخذلوها فهم خير خلَف لخير سلَف. فلئن كانت مظاهرات 17 أكتوبر 1961 صفحة هامّة في تاريخ كفاح الجالية الجزائرية المقيمة بالمهجر كانت تعبيرا صريحا للجزائريين على رفضهم للمستعمر سواء كانوا داخل الوطن أو خارجه تحدّوا بذلك جميع أنواع الممنوعات وأظهروا للسلطة الإستعمارية أنهم مع إخوانهم في الجزائر ملتزمون بكل عزم بالكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري برمّته من أجل استعادة سيادته المسلوبة وإسترجاع قيمه الوطنية.. وكانت بمثابة دفع قوي للثورة الجزائرية خارج حدودها الإقليمية حيث نقل المهاجرون الرعب والإضطراب إلى قلب عاصمة المستعمر مما فرض عليه تسريع وتيرة المفاوضات التي إنتهت بخضوع فرنسا لإرادة التحرّر التي تمسّك بها الجزائريون إلى آخر رمق رغم الآلام والتضحيات الجسام وها هو هذا اليوم يخلّد في الذاكرة التاريخية للجزائريين بإسم: يوم الهجرة تخليدا لتلك الأحداث الراسخة على صفحات التاريخ الجزائري. ولكن ( أيها الأحبة ) فما قيمة التاريخ إذا كان قراءة للأحداث دون إستيعاب ولَوْكًا للماضي دون عبرة وتغنّياً به من غير إستخلاصِ الموجب الخلاقِ لإثراء الحاضر بالتجارب العظيمة ومدِّه جسرا إلى المستقبل بمزيد من التصميم والحماسة والإقبال. درس.. إنّ في تاريخ هذا اليوم درسا يهزّ منا السواكن ويَشحَذ فينا الإرادة ويُهيئ لنا ولكم أيها الشباب السّبل القويمة للإتعاظ بعبَر الأسلاف.. ألا فليعلم الجميع أنّ الأمنَ واللحمةَ الوطنية وتماسكَ المجتمع وحمايةَ المُقدَّسات هي أعلى وأغلى ما نملِك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين وأن هذا الوطن ( بعون من الله) شارك في صنعه آباؤنا وأجدادنا ويسهر عليه ( بتوفيق من الله ) رجال من أبناء هذا الوطن يحفظون أمننا ومقدَّساتنا وسعادتنا وأحوالنا وأموالنا وأنفسنا وأهلينا. والسّاحة للصادقين المخلصين والإنتماء الوطني هو الأغلى وتيّار الحقّ والكرامة هو الأقوى في عدالة سائدة وحرية منضبطة وشعور جماعيّ بالحفاظ على الوطن والممتلكات والمكتسبات والبعد والتصدّي لكلّ فتنة أو مسلك أو دعوة تهدّد الوطن ووحدته والمجتمع وعيشه. ألا فكونوا صفّا واحدا في كتيبة واحدة متراصّة لمواصلة الطريق متعاونين على البرِ والتّقوى لا على الإثم والعُدوان وحافظوا على تراثكم المجيد ومجدكم العظيم الذي ورثتموه عن أسلافكم واتقوا الله لعلكم ترحمون. نسأل اللهَ سبحانه أن يغمر أرواح شهدائنا ( الذين عبدوا لنا طريق العزة والكرامة ) برحمته وأن يمتّع المجاهدين الباقين بالصحة والعافية وأن يمكّن لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف.. اللهم بارك في الجزائر أرضِها وسمائها وأكثر خيرها في بَرِّها ومائها واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.