بقلم: مالك التريكي* لا يقتصر التوجس من الاتحاد الأوروبي على بريطانيا. بل إن هنالك في كل بلد أوروبي تقريبا تيارا سياسيا معبّرا في معظم الحالات عن تيار شعبي يناهض نزوع الجهاز التنفيذي والبيروقراطي للاتحاد الأوروبي في بروكسل نحو مزيد من التكامل السياسي الذي يراد له أن يبلغ بعد زمن درجة الاندماج الفدرالي بين جميع الدول الأعضاء. صحيح أن في بريطانيا شريحة معتبرة من الطبقة السياسية (ينتمي معظمها إلى حزب المحافظين ولكنه لا يقتصر عليها) معروفة بكراهيتها المتأصلة للاتحاد الأوروبي منذ أن كان (مجموعة اقتصادية أوروبية) محدودة الغايات السياسية ومحدودة عدد الأعضاء. وصحيح أن هذا التيار السياسي غير منقطع الصلة بمشاعر (أو مواقف) بعض شرائح الرأي العام البريطاني. ولكن مظاهر كراهية الاتحاد الأوروبي قائمة في كل بلد أوروبي تقريبا حتى في تلك البلدان الشرقية التي استفادت مثل بولندا من الاتحاد أيما استفادة ونالت من الدعم الاقتصادي والتقني السخي ما يندر أن يوجد له نظير في أيّ من تجارب التعاون الإقليمي وفي أيّ من فترات تاريخ العلاقات الدولية الطويل. ولعل من أقوى الأدلة على اتساع رقعة هذه الكراهية أن في فرنسا تيارا قويا مناهضا للاتحاد الأوروبي يجد أشهر تعبيراته في حزب الجبهة الوطنية ولكنه لا يقتصر عليها. أما على المستوى الفكري الجاد فإن كثيرا من خبراء القانون والسياسة الفرنسيين يعتبرون أن فرنسا مهددة في صميم كيانها بسبب خروج عضويتها في الاتحاد الأوروبي عن نطاق السيطرة الوطنية. ولعل خبيرة القانون ماري فرانس غارّود التي سبق أن وصفت عام 1973 بأنها (أقوى امرأة في فرنسا) والتي عملت في الستينيات والسبعينيات مساعدة لجورج بومبيدو منذ أن كان رئيسا للحكومة في عهد الجنرال ديغول وبعد أن صاررئيسا للدولة ثم مستشارة للرئيسين جيسكار دستان وجاك شيراك كما أنها انتخبت عضوا في البرلمان الأوروبي لدورة واحدة في مطلع الألفية هي الآن أقوى المناهضين للاتحاد الأوروبي حجة وأبلغهم بيانا. ويتمثل موقفها في القول بوضوح بالغ بأن الدولة الفرنسية لم تعد قائمة. لماذا؟ لأنها فقدت كل مقومات السيادة: أي سك العملة وسن القوانين وإقامة العدل والسيطرة على الحدود وقرار الحرب والسلم. بل إنها ذهبت أخيرا إلى حد القول بأن فرنسا ذاتها إنما هي سائرة نحو الانقراض. والرأي عندها أن فرنسا لم تعد دولة وإنما هي مجرد دولة عضو (أي ولاية) في تجمع واسع تحكمه إيديولوجيا الرأسمالية النيوليبرالية وميثولوجيا الانصهار في كيان شامل كبير هو الولاياتالمتحدة الأوروبية. وتشرح ماري فرانس غارّود أن لنشأة النزعة الفدرالية الأوروبية أصولا لا وجود لها إلا في التاريخ الأمريكي. حيث أن من عمروا شمال القارة الأمريكية في النصف الثاني من القرن السابع عشر هم في معظمهم مهاجرون من أصول ألمانية وجرمانية عموما وأن محنة الحروب الدينية الجرمانية قد جعلتهم مهووسين بحلم القضاء على الحروب. وبما أن الدول هي مصدر الحروب فإنه صار من اللزام في اعتقادهم القضاء على كيان الدولة. والقصد أنه إذا تم القضاء على السياسة وإحلال الاقتصاد وتنظيماته محلها فإن الحروب تنعدم لأن النزاع السياسي ينعدم. ونظرا لرسوخ هذه الثقافة المسالمة فقد عجز الرئيس روزفلت في الأعوام الأولى من الحرب العالمية الثانية على نجدة الديمقراطيات الأوروبية. إذ كان الكونغرس الذي يسند له الدستور الأمريكي صلاحية إعلان الحرب ما يزال يفضل آنذاك انتهاج سياسة الحياد. وبعد 1945 خلص الرئيس روزفلت إلى أن السبيل الوحيد لمنع تجدد الحرب بين الأوروبيين هو إنهاء السياسة وإعادة تنظيم الدول الأوروبية تنظيما اقتصاديا ذا هيكل اتحادي أي إعادة صنع أوروبا على مثال الولاياتالمتحدةالأمريكية وصورتها. فهل كان لهذه النظرة الطوباوية ما يسوغها؟ تجيب ماري فرانس غارّود: نعم. ولكنها نظرة حملت في داخلها بذور فنائها لأن الحروب التي تشن منذ ذلك العهد إلى اليوم إنما تشن لغايات اقتصادية ومالية.