بقلم: هيفاء زنكنة تعيش بلداننا هذه الأيام كما تشير إحصائيات الموت اليومي ذروة محاولات قتل الحياة والمخيلة. فكلما يضاف اسم آخر على قائمة الضحايا تنكمش القدرة على تخيل عالم مغاير ويتلو الأحياء التسابيح لأنهم لايزالون على قيد الحياة لأنهم لم يدفنوا تحت أنقاض مبان مهدمة لأنهم لم يقتلوا برصاص قناص أو تفجير مفخخة. ولكن هل من دولة نجت من غبار الاحتلال والصدمة والترويع واستبداد الأنظمة القاتلة لشعوبها؟ هل من أمل بنجاة الحياة ولو في بلد واحد وعلى مستوى واحد ما ليستمد البقية الأمل منه؟ قلما نسمع في هذا الزمن عما يبعث الأمل فأجواء السياسة وما يغلفها من تطرف إيديولوجي أو فساد وأكاذيب هي المهيمنة فلا يبقى لدينا غير الحفر في الأعماق في أجواء الثقافة والأدب والفن والمبادرات الفردية والجماعية وخصوصا ما ينتقل منها عبر جيل أو جيلين ضامنا بعض التراكم. قلما نعيش في البلاد العربية احتفاء بتأسيس مبادرة فنية مستقلة ناهيك عن الاحتفال بمرور 30 عاما على تأسيسها وعملها بنجاح كبير وأصحابها لايزالون على قيد الحياة. إنها مناسبة استثنائية وإن كان البلد الذي تمت فيه استثنائيا بما مر به من سيرورة ثورة تغيير سلمية. ففي العاصمة التونسية اجتمع فنانون وكتاب للاحتفال بمرور 30 عاما على تأسيس فضاء التياترو المسرح النقدي والتجريبي المعروف من قبل المخرج والممثل توفيق الجبالي ورفيقة عمره مديرة المسرح زينب فرحات الناشطة في المجتمع المدني وصاحبة المبادرات النسوية. التونسيون اليوم لايتفرجون على سقوط البهلوان وموته في شوارع مدنهم. أولياتهم ومن بينهم المثقفون عموما أبعد من التغيير الفوقي. الثورة تتغذى بسرعة (أسرع مما يجب أحيانا) على النشاطات الفنية والأدبية والفكرية. معارض وأفلام ومسرحيات وندوات بمستويات نوعية مختلفة والاختلاف متوقع بعد أن اتسع فضاء الحرية بعيدا عن تكميم الأفواه. من خبرته المسرحية الممتدة على مدى 40 عاما يلخص توفيق الجبالي جوهر العمل الإبداعي والصعوبات التي تواجه المبدع وتدفعه أحيانا إلى الاستقالة واختلاط الحلم بالقدرة المتجددة دوما على العطاء مستقبلا كما الماضي بأسلوب فيه الكثير من التحدي كعادته للجميع للرسميين وللمثقفين وللجمهور نفسه: (سننتج أعمالا مسرحية تليق بالزمن المتبقي المتجدد ونراجع أعمالا تليق بالزمن المنقضي. سنكتب ونرسم ونرقص ونقرأ ونحلم. سيعج التياترو الفضاء السحري الجميل بالخطوات المتشابكة والأنفاس الملتحمة والأحلام المختلطة سنعيد قراءة تاريخ الفضاء الذي صمد رغم كل أسباب الاستقالة. سنسعد كما لم نسعد. لنا الفن لنا الحياة. وحين يصف الجبالي إنجاز المسرح بأنه (ثلاثة عقود من الصدق والألق بالمثابرة في المغامرة والجنون المؤسس) ويقف على خشبة المسرح مع نساء ورجال يؤمنون بالفن كمدخل للعالم فإنه لا يلوك مفردات فارغة بل بأعمال منجزة فعلا تتضمن إتاحة الفرصة للعروض الأولى والجانب التعليمي في الورشات. أعمال تمثل عمق دور الفن ومقاومة المخيلة وما قدمه من أعمال مسرحية باتت جزءا من ذاكرة الجمهور التونسي. صوته الساخر المتهكم الهجاء في 11 مسرحية قصيرة بعنوان (كلام الليل) منذ بداية التسعينيات هو تجسيد كوميدي لأحداث وتحولات مر بها التونسي كفرد وتونس كبلد وامتدادها البلاد العربية. باللهجة التونسية يحتل لصوص بغداد خشبة المسرح ليصبحوا جزءا من كلام الليل في العام الثاني لغزو العراق وحرق مكتباته ونهب متاحفه. اعتبر الجبالي نهب المسرح الوطني العراقي وإفراغ جميع محتوياته إهانة لمَعلم حضاري فأخذ الحدث وبنى عليه عملا فنيا متجنبا الوقوع في فخ المباشرة السياسية والإيديولوجية. ويمتد (كلام الليل) لسنوات عن ولد عمي المغروم بحقوق الإنسان والآخر المغروم بالديمقراطية وصاروا يسمونه في الحومة ديمو. ولا يسكت الجبالي. إذ يحكي في فاصلة صفر محنة المثقف والنخبة وفي التابعة محنة الكل بلا استثناء عبر شخصيات جوفاء منقادة بلا إرادة عاجزة عن استيعاب التغيرات فتسايرها لئلا تمس مصلحتها بينما تواصل ما يبدو ظاهريا وكأنه الحياة. تأخذ محنة المثقف في بقية البلدان العربية عمقا آخر. إذ أدى تزايد يوميات الحروب والاحتلال والعنف من فلسطين واليمن وسوريا والعراق إلى ليبيا والسودان إلى تردي لغة التحليل والخطاب السياسي بالإضافة إلى الاستهداف الجسدي. أصبحت اللغة (وهي جوهر الإبداع) بحكم الواقع السياسي المبتذل ملوثة بالأكاذيب وتسويق أدوات الموت جامدة مثل قوالب كونكريتية ترتفع أمام ناظري القارئ فتمنعه وهذا هو الهدف من الرؤية والقدرة على التخيل. حيث يصبح التصاق اللغة باليومي البشع والمعجون بقبول الواقع وحتى ما هو أدنى هو المألوف. لنعيش حقبة ضمور المخيلة التي خلقت للإنسان أدوات مقاومته وثراء وتنوع عالمه وإرشاده إلى عوالم غير منظورة وأغنته بالأساطير والملاحم والحكايات والترنيمات والشعر على مدى التاريخ وما قبله حتى ولادة الأديان والإيديولوجيات المقولبة. قد تكون تونس البلد الأكثر إضاءة للأمل. بلد الرهان الأكبر على ثورة التغيير المستمرة لأنها حرصت على حياة الناس بالمقارنة مع ما سببته مثيلاتها في البلدان العربية الأخرى. تستمد تونس قوتها الداخلية أيضا على الرغم من كل الصعوبات من ميزة التواصل الحضاري الذي تعيشه منذ تحررها الوطني وحتى اليوم والذي لم ينحدر إلى مستوى تخريب الدولة وما يؤدي إليه من تفتيت للبنية المجتمعية كما في حالة العراق مثلا. إذ قامت كل حكومة استولت على السلطة بانقلاب عسكري بتهديم ومسح واجتثاث ما تم إنجازه قبلها. وجاءت حكومات الاحتلال لتسدد الضربة القاضية متمثلة بتفكيك الدولة وإلغاء المؤسسات ونهب كل ما له علاقة بالهوية الوطنية. في تونس مزاوجة المقاومة بالتغيير تعني ما هو أكثر عمقا من السياسة أنها تنطوي على الشعر والتفكير السحري وأن يستعيد المرء امتلاك المخيلة ولفضاء التياترو دوره بذلك. فهو واحد من واحات الفن والأدب المتناثرة في البلاد التي نجحت في إبقاء جذوة الإبداع مستمرة حتى في أحلك الظروف لتساهم في تشكيل وعينا النقدي وأن نكون قادرين على أن نرى أبعد من اللحظة الحالكة.