بقلم: سامي بن كرمي* لله حكمة في رحيلك منذ حين. ذكراك لم ترحل بل لا زلت أراك في كل مكان وكل وقت. تخيلت لو بلغ أسماعك ما قاله ذاك ووافقه الكثير وسكت عليه الكثير. السفاهة لا حد لها والرويبضة في كل مكان. عفوا أبي. أتى في هذا الزمان من إن تكلم قاء لم يراع الحقائق ولا التاريخ ولا العقل ولا المشيب. سفيه آزره سفيه ووافقه سفيه وسكت عنه سفيه. في الوطن رجال انتفضوا فَضَحُّوا فأَبْلَوْا بلاء حسنا. صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. كان بالإمكان أن يؤثر أحدهم مساره الشخصي لا هم له إلا مصلحته المباشرة فلتذهب الثورة إلى الجحيم ولتذهب التضحية إلى غير رجعة. لا شك في أنه من انخرط صادقا في مسار الوطن قد قام بذلك على حساب الكثير الكثير من الأمور. كان الطريق مجهولا ومحفوفا بالمخاطر ولا مستقبل له. من ولج فيه قَبِلَ بذلك وتخلى عن كل شيء إلا وطنيته. رجال كثر ومنهم أبي تركوا دفئ بيوتهم منهم من ترك دراسته ومنهم من ترك أهله وواجه الجوع والتهجير والخوف لم يحركهم طمع ولا طموح إلا طموح الحرية. بالله عليكم لو قُدِّرَ لنا أن نعيش نفس النداء من كان منا ليلبي؟ قطعا ليس السفهاء ولا الرويبضة. خالي رشيد رحمه الله عذب عذابا لا يطيقه بشر وهو لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره توفي منذ سنوات وهو يجر آثار ما عاشه منذ أربعين سنة مضت يخاف من الظلام وهو شيخ كبير يرى كوابيس بهول ما عاشه تحت سياط الاستدمار. خالي رشيد رحمه الله من طينة عاش ما كسب مات ما خلى رغم أنوف السفهاء والرويبضة. أمثال والدي وخالي رشيد ألاف من المجاهدين والمناضلينيستحيل السكوت على من يمس ذكراهم. وليس من حق أيا ما كان ولأي سبب كان أن يشكك في وطنيتهم وإخلاصهم. التحق بركب الثورة الكثير في وقت البدل الضائع كما التحق بها المتكسبون مثلهم مثل ابن آوى حقيرون وسافلون وعذرا لابن آوى. لو تكلمنا عن أمثال ابن آوى هؤلاء فقد أوليناهم أكثر مما يستحقون. إلا أن الواقع يحتم علينا ذلك. أجمع العارفون أنهم وما وَرَّثوا هم سبب خراب البلاد والعباد. خراب ممنهج يسير وفق خطة استراتيجية محكمة الهدف منها زوال الاستدمار من دون زواله. وعلينا أن نعترف أنهم نجحوا في ذلك. استعملوا التهميش والتحييد لتحقيق هدفهم. لا يدخل في دائرة القرار إلا من رُضِيَ عنه ومن رُضِيَ عنه هنا يجب أولا أن يُرْضَى عنه هناك. ويستحيل للصادقين المخلصين أن يُرْضَى عنهم. لذا وجب تلطيخ سمعتهم في ذاكرة العامة وهذا دور السفهاء والرويبضة. مثله كمثل والدي ومثل خالي رشيد المجاهد سي حميدة أيضا من طينة المضحين الذين كتب لهم أن يعيشوا بعد الثورة ولا يحط من قدره ذلك فلا يملك أحد قطا ساعة رحيله ولكنه يملك قطعا إخلاصه وتضحيته. المجاهد إبراهيم شرقي المدعو سي حميدة هو شخصيتنا لهذا الأسبوع. الأسبوع الثاني والعشرون: ولد سي حميدة سنة 1922في بلدة عين الخضرة في ولاية المسيلة في كنف عائلة امتهنت الفلاحة والزراعة. تنقلت عائلته سنة 1923 إلى مدينة بسكرة حيث تلقى تعليمه في المدرسة الفرنسية والكتاب بالموازاة. مع إنشاء حزب الشعب الجزائري سنة 1937 بدء سي حميدة الاهتمام بالأوضاع السياسية في الجزائر فكانت له مطالعات عديدة في المنشورات السياسية التي صدرت حينها وقد صبت كلها في اتجاه صقل شخصيته الوطنية. انخرط سنة 1938 في الكشافة الإسلامية التي نشطت تحت لواء جمعية العلماء المسلمين. كما التحق سنة 1943بحزب الشعب الجزائري وناضل فيه بجنب كل من العربي بن مهيدي والدكتور شريف سعدان. صقلت شخصية سي حميدة في صفوف الحزب المصالي وتعلم من خلاله الانضباط والعمل المؤسسي كما تعمقت لديه الروح الوطنية التي مهدته للعمل الثوري لاحقا. ألقي القبض عليه سنة 1944 بتهمة توزيع منشورات ضد التجنيد الإجباري في الجيش الفرنسي ولكن سرعان ما أخلي سبيله أمام القضاء العسكري لانعدام الأدلة. سافر مباشرة بعدها إلى مدينة الدار البيضاء تفاديا لتجنيده الإجباري حيث قضى سنة فيها. حال عودته إلى الجزائر ألقي عليه القبض مجددا بتهمة الفرار من الخدمة الوطنية. سنة 1946 التحق بحركة انتصار الحريات الديمقراطية وعمل جنبا لجنب مع كبار رموز الحركة الوطنية وعلى رأسهم مصطفى بن بولعيد وديدوش مراد وعينه عصامي محمد كمسؤول أول على منطقة باتنة حيث نشط وروج لفكرة الاستقلال التي حملتها الحركة. تولى بعدها المسؤولية في الشمال القسنطيني لأنشطة الحركة شبه العسكرية فكان ممن أعدوا العدة تجهيزا وتدريبا لانطلاق الثورة المباركة. سنة 1949 كُلِّفَ بنفس المهام في منطقة وهران. انضم أيضا للمنظمة السرية وبعد انكشاف أمرها تم تحويله إلى التنظيم السياسي في مدينة البليدة كما تولى سنة 1953 المسؤولية عن كامل الشمال القسنطيني. حال اندلاع الصراع بين المصاليين والمركزيين فضل سي حميدة الوقوف مع المركزيين والانغماس أكثر فأكثر في الإعداد للكفاح المسلح. اندلعت الثورة المباركة وتولى سي حميدة مسؤولية التنظيم السياسي في العاصمة. جنبا إلى جنب مع إخوانه المجاهدين ومنهم كريم بلقاسم وسلطاني عبد اللطيف ومحمد بوضياف وغيرهم ممن وهبوا أرواحهم في سبيل الوطن شارك سي حميد في العمل النضالي في منطقة العاصمة فنظم عمل المناضلين والفدائيين والمجاهدين بدأ من إعداد للعمليات العسكرية إلى جمع الاشتراكات مرورا بالتثقيف السياسي والخدمات الطبية وغيرها مما عَبَّدَ مسار التحرر والاستقلال. بأمر من قادة الثورة انطلق إضراب الثمانية أيام بتاريخ 28 جانفي 1957 في ربوع الوطن وكان لسي حميدة مع مجموعة من الثوار رأي مغاير لذلك إذ عارض المدة الطويلة المقترحة قائلا بأن طول المدة سيرهق المواطنين كما سيتيح لقوى الاحتلال أن تتحرك بحرية وفاعلية لتزيد من قمعها وسيطرتها على الأهالي. وكان التنبؤ صحيحا فبعد أن زَجَّ الاحتلال بقواته الخاصة تحت قيادة الجنرال جاك ماسو والتي فاقت 8000 جندي كُشِفَ الهيكل التنظيمي للثوار في العاصمة وحلت جميع الخلايا الثورية كما تم إيقاف أزيد من 23000 معتقل بالإضافة إلى 4000 مفقود. بتاريخ 24 فبراير 1957 جمع عبان رمضان رفقاء الكفاح في شقة سلطاني عبد اللطيف ومنهم سي حميدة وتم تعيين سي حميدة كمسؤول بصفة رسمية. بعد خروجه من الاجتماع وبعد وشاية به ألقي القبض على سي حميدة. أودع في فيلا سوزيني الشهيرة في حي الأبيار حيث تم تعذيبه بطريقة وحشية ومتواصلة بغية استئصال معلومات حول الثورة والثوار منه وحال الإحساس بقرب موته حوله جلادوه إلى طبيب عسكري لمعالجته وإعداده مجددا لجلسات التعذيب. كانت زنزانته بجنب زنزانة رفيق دربه محمد العربي بن مهيدي والذي اغتيل مباشرة بعدها في ليلة الرابع من مارس. رحل بن مهيدي وبقي سي حميدي والذي كتب له عمر جديد حين حوله جلادوه إلى مصالح الشرطة في مدينة البليدة. بتاريخ 13 أبريل 1957 أودع في سجن سركاجي وصدر حكم قضائي في حقه من المحكمة العسكرية بتاريخ 24 جويلية 1957. قبع سي حميدة في سجن سركاجي حتى أبريل 1962 أطلق بعدها سراحه. قرر الانعزال عن أي عمل رسمي برغم محاولة رفقاء دربه معه للالتحاق بقطاع الشرطة في الحكومة الوليدة. غير أنه آثر البقاء بعيدا عن الأضواء ودوائر القرار. وهنا يعود أبناء آوى إلى الواجهة سُرِّبَتْ معلومات مفادها أن سي حميدة هو من وشى بالعربي بن مهيدي وكأنه قُدِّرَ لرموز الثورة المخلصين أن يُنَالَ من سمعتهم وتُشَوَّهَ سيرتهم إلا أن الواقع والتاريخ والحقائق وشهادات كبار قادة الثورة صبت كلها في صالح تنزيه سي حميدة عن هذه التهمة وهو في غير حاجة لذلك فمساره النضالي منذ نعومة أظفاره يدل حقيقة على طهارة الرجل وإخلاصه فيما أفنى عمره فيه. توفي سي حميدة في السابع من جانفي 2016 في مستشفى عين نعجة العسكري وترك وراءه مسيرة حافلة بالتضحيات والبطولات. لم يقدر لسي حميدة ولا لوالدي ولا لخالي رشيد الاستشهاد في أرض المعركة خلال الثورة التحريرية هل ينقص هذا من شأنهم مثل ما قال ذلك السفيه؟ قطعا لا. إخلاص النية لا يعرفها إلا الله تعالى ولكن لها شواهد يطلع عليها الخلق يميزون من خلالها الخبيث من الطيب والمخلص من ابن آوى أليسوا هم شهداء الله في الأرض. فمن رحل وترك الأثر الطيب من حواليه ليس كمن ترك وراءه سمعة لا تكاد تذكر إلا وبصق الشهود عليها. رحمك الله يا والدي ورحمك الله يا خالي رشيد ورحمك الله يا سي حميدة ورحم الله كل من أفنى عمره وجهده في خدمة هذا الوطن مخلصا النية وجزاهم الله أحسن الجزاء. ومرة أخرى عذرا لابن آوى.