الشيخ: عبد الكريم بكار هذه آية عظيمة القدر في كتاب الله - عز وجل -حيث إنها تسهم إسهاماً كبيراً في تشكيل رؤية المسلم إلى أشياء كثيرة في عالم الأحياء وترتب على عدم الاهتداء بهدي هذه الآية كثير من الخلل في حياتنا المعاصرة . وما اخترناه ليكون عنوانا لهذه المقالة جزء من آية هي قول شعيب عليه السلام لقومه [ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَه غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ] [ الأعراف : 85] . وسياق الآية وإن كان يدل في ظاهره على أن المقصود المباشر ب (أشياءهم) هنا ما يتبادله الناس في معاملات هم من المتاع إلا أن ما يملكه الناس ويتمتعون به من أخلاق وأفكار وتاريخ ... أولى بإقامة العدل وإنزاله في منازله من غير وكس ولا بخس ولا شطط لما يترتب على الإخلال بذلك من الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح ... ولما كانت أصول دعوات الأنبياء - عليهم السلام - واحدة فإن الأمر بإقامة الموازين والحكم بالعدل والإنصاف ظل الوصية الخالدة التي يوجهها كل نبي إلى قومه لأنه بالعدل قامت السماوات والأرض ... وقد أوصى الله تعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يعلن لأمته أمر الله له بإقامة العدل فيها فقال : [ وقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَاب وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ] [الشورى : 15] . وأوصى المؤمنين بإقامة العدل مع الناس كافة حتى الأعداء الذين يبغضونهم ويحاربونهم فقال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ] [المائدة : 8] . وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقوم لله بالشهادة فيعطي كل ذي حق حقه وفي سيرته العطرة مئات الشواهد التي تفيد التزامه المطلق بإنزال الناس منازلهم وذكر محاسنهم وميزاتهم مهما كان انتماؤهم وحيث كان موقعهم فهذا هو يقول : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل . مع أن لبيد وقتها كان كافراً وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يثني على شعر بعض أصحابه المملوء حكمة وهدى بدافع حصر الخير فيهم ولكن الالتزام بالحق والإنصاف وعدم بخس أحد حقه يأبى ذلك فأثنى على كلام رجل كافر . ومن الجدير بالذكر هنا أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه سمع لبيداً ينشد البيت فلما قال : ألا كل شيء ماخلا الله باطل قال له عثمان : صدقت فلما قال : وكل نعيم لا محالة زائل قال له عثمان : كذبت نعيم الجنة ليس بزائل . وإن المرء ليعجب لهذا الإنصاف أيضاً من عثمان المقتبس من مدرسة النبوة حيث أثنى في النصف الأول على لبيد ويكذبه في النصف الثاني ! ! . وجاء المسلمون بسفانة بنت حاتم الطائي في السبي فذكرت لرسول -صلى الله عليه وسلم- من أخلاق أبيها ونبله فقال لها : يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله تعالى يحب مكارم الأخلاق لقد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حاتم الموقف الذي تمليه شريعته الغراء التي جاء بها فأثنى عليه وأطلق سراح ابنته وأكرمها ولكنه لم يترحم عليه لعدم إيمانه لتهتدي الأمة بهذا الهدي النبوي العظيم ! ! . ونبه -صلى الله عليه وسلم- النساء على ما يجري على ألسنتهن من انتقاص أزواجهن وجحد معروفهم عند أدنى خلاف فقال : أريتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط وإن هذا الحديث يبرز قضية العدل إبرازاً يقل نظيره حيث جعل عليه الصلاة والسلام جحوده سبباً كبيراً لكثرة وجود النساء في النار وكأن كفران العشير يحدث في الحياة الزوجية من الشروخ والندوب ما يوازي الجرائم الاجتماعية الكبرى . وعلى هذا المنوال نسج الصحب الكرام رضوان الله عليهم حين إصدار الأحكام على الخصوم فضلاً عن الإخوة والرفاق فقد قاتل علي رضي الله عنه الخوارج وقاتلوه ثم قتلوه ولما سئل من قبل بعض الناس عنهم أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فروا فقالوا : أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً - أي هؤلاء يذكرون الله كثيراً - قيل : فما هم يا أمير ألمؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا ! ! فهل بعض إنصاف أبي الحسن من إنصاف ؟ وهل هنالك كلام يقوله شاهر سيف أرق من هذا الكلام ؟ ! . وظل روح العدل والإنصاف سارياً في الأمة قروناً عديدة وتجلى ذلك بشكل واضح جداً في القواعد التي صاغها المحدثون في الجرح والتعديل حيث وضحوا الجوانب المختلفة لشخصية الراوي وحكموا على كل زاوية على حدة ثم انتهوا إلى حكم عام حوله وصار عندهم من الظواهر المألوفة أن يطلب أحدهم الدعاء من رجل فإذا جاءه حديث عن طريقه حكم على الحديث بالضعف لأن طلب الدعاء مبني على اعتقاد الصلاح أما قبوله روايته فيعتمد على شيء آخر كضبط الراوي وعلمه ونباهته وغير ذلك ... ولكن تراجعت هذه الرؤية الموضوعية الفذة فيما تراجع من الجوانب المختلفة من حياة المسلمين وصار المنصفون الذين يجردون الشهادة لله ويضعون الأمور في مواضعها دون بخس أو تزيد من القلة الذين يشار إليهم بالبنان ولنذكر بعض النماذج التي ضربت بجذورها في حياة المسلمين اليوم وصارت تشكّل ظاهرة مرضية مزمنة وذلك نتيجة التطفيف في المكاييل وبخس الناس أشياءهم . والخلاصة أن هذه الآية الكريمة مما عطل به العمل عند كثير من المسلمين ونشأ عن هذا التعطيل مرض اسمه : (عمى الألوان) ولكنه في البصيرة دون البصر فأطفئت ألوان كثيرة لا تكاد تحصى كانت تتوهج بين الأبيض والأسود وكثر النمط الذي يقرظ ب : (وحيد دهره وفريد عصره) والنمط الذي يقول فيه (الرجال)