نتائج التشريعيات تُحيّر المراقبين سنغافورة: بلد صغير شبعه.. كبير باقتصاده متابعة وترجمة: ع. بلقاسم مسعودي لا ريب أن عامل التاريخ بصفة عامة أمر في غاية الأهمية وضرورة عند كل مجتمع عبر كل الأزمنة لأنه لا يترك مرحلة إلا ويسجلها مهما كان طابع تلك المرحلة فإما أن يسجل على الإنسان أشياء ومواقف إيجابية وإما أن يسجل عليه أشياء سلبية وإما أن يمر ذلك الانسان بدون ترك أي آثر وهذا أكثر من السلبية ذاتها. فأهم صفة للتاريخ أنه لا يرحم ولا يشفق وقد يعطي فرصة للإنسان لكي يتدارك الزمن ويحاول أن يسجل شيئا لكن بمجرد فناء ذلك الانسان لن تكون هناك فرصة أبدا. فكم من الناس من سجل اسمه في صفحات التاريخ بحروف من ذهب بسبب أعماله أو مواقفه أو محاسنه. وكم من الناس من دخل في قمامة التاريخ وأصبح في طي النسيان بمجرد ذهابه من الدنيا والأكيد أنه كان في هاته الدنيا منسيا. نموذج نادر وبالكلام عن الناس الذين دخلوا التاريخ من بابه الواسع وكانوا من صناعه نجد هذه الشخصية التاريخية الأسطورة ألا وهي شخصية صانع أمجاد دولة سنغافورة والذي حكم لأطول فترة يحكمها رئيس وزراء في العالم من سنة 1959 إلى غاية 1990. ففي الأيام الماضية وأنا أشاهد المحطة الأمريكية سي آن آن تابعت حصة خاصة عن رجل ليس كالرجال بل هو نموذج نادر في هذا العالم وهو المحامي خريج جامعة كامبردج البريطانية. إنه الزعيم لي كوان يو الذي ولد في 1923.09.16 وتوفي في : 2015.03.23 هذا الرجل الأسطورة الذي جعل من سنغافورة دولة متطورة وبلدا راقيا بمجتمعه وفي مصاف الدول التي فرضت احترامها على جميع دول العالم وأعطى أكبر عبرة أن تطور أي بلد ليس له علاقة بتغيير الأنظمة ولا بتغيير المسؤولين بل الأمر يتعلق بالإخلاص والنزاهة والتفاني في العمل ورفع التحدي وروح المسؤولية والانضباط. كلها عوامل ضرورية لكي تضمن نهضة معتبرة حتى وإن بقي نفس المسؤول في منصبه مثلما حكم الزعيم لي كوان يو أطول فترة في العالم ثم أعطى مثالا عن احترام النفس حيث استقال في سنة 1990. لقد كان مؤسسا مساعدا لحزب العمل الشعبي ورئيسا له وكان سببا في نجاحه في 08 مواعيد انتخابية من سنة 1959 إلى غاية استقالته سنة 1990. وهو الذي أشرف على انفصال ماليزيا عن سنغافورة سنة 1965 ورفع التحدي بأن جعل دولة صغيرة بدون موارد طبيعية تصبح على رأس الدول المتقدمة في كل المجالات لاسيما بين الدول الأسوية المتطورة. شخصية مؤثرة وهكذا ظل هذا الزعيم شخصية سياسية مؤثرة بشكل كبير في سنغافورة آسيا وشمالها الشرقي ولم يكتف بذلك بل بقي رجلا مفيدا لبلده حتى بعد استقالته حيث وقف إلى جانب الذي جاء من بعده المرشح للرئاسيات قو شوك تونغ وعمل كوزير منتدب إلى غاية سنة 2011 في ظل حكومة ابنه لي هزين لونغ والذي أصبح ثاني رئيس وزراء من نفس العائلة بتاريخ : 2004.08.12 فالملاحظ أن عامل التوريث ليس له علاقة في تطور البلد من عدمه وهذا المثال خير دليل على ذلك رغم أن سنغافورة ليست مملكة ودليل آخر هو ما أنجزه الشيخ زايد رحمه الله حيث كان سببا في تقدم دولة الامارات في وقت وجيز فبعدما كانت عبارة عن خيَم وتعيش حياة البداوة في فترة السبعينيات هاهي قد أصبحت قطبا لكبرى الشركات العالمية وملتقى للتكنولوجيات المتطورة. أي أن العبرة في الإخلاص والتفاني في العمل والعزيمة القوية والحكم الراشد وكذلك عامل الاعاقة ليس له علاقة بالكفاءة والاقتدار فوزير المالية الألماني السيد: فولفغانغ شويبله مهندس أول اقتصاد في أروبا وثالث اقتصاد في العالم هو يمشي على كرسي متحرك بدون مساعدة حراسه أي أنه يتكل على نفسه وهو وزير عمل ومازال إلى يومنا هذا مع رئيسة الحكومة انجيلا ميركل وذلك لعهدتين. وهناك رئيس اندونيسيا الأسبق عبد الرحمان وحيد فقد قاد اندونيسيا لعهدة كاملة وهو كفيف.. ودليل آخر على أن الاخلاص هو عامل رئيس كان عنوانه الزعيم الراحل هواري بومدين رحمة الله عليه حيث بنى دولة من العدم وشيَد مصانع هي اليوم محل زيارة كل رئيس وكأن الجزائر لم تبن شيئا بعده وهاهم يرجعون إلى مدارس أشبال الثورة بعد 30 سنة وهي المؤسسات التي كوَنت ضباطا من مستوى عال وهاهم يريدون تجميع المصانع التي بقيت بعد الهيكلة بعد أن عاثوا فيها فسادا وقسموها إلى فروع. ورغم سلبيات الزعيم إلا أنه ترك بصمات لا يمكن لأحد نكرانها. حرية تعبير غائبة وهاهي عائلة الزعيم الراحل لي كوان يو تواصل تربعها على عرش دولة سنغافورة وتفوز بالانتخابات التشريعية عن طريق الحزب الحاكم في دولة تغيب فيها حرية الصحافة حيث تأتي في المرتبة 158 من 187 في ترتيب الدول التي تمتع بحرية الصحافة كما انها خاضعة لهيمنة الحزب الواحد وهنا لا ريب أن المشكل في الدول المتخلفة ليس مشكل حرية صحافة يرافقها كثرة الانتقاد الهدام والزارع للفتن بل هو مشكل رجال مخلصين نزهاء متشبعين بالروح الوطنية ويؤمنون بالعمل يصنعون اقتصادا قويا ويطمحون إلى التفوق. في أوج انتشار الوباء العابر للقارات نظمت سنغافورة الانتخابات التشريعية يوم الجمعة الموافق ل 10 جويلية 2020 حيث لا تزال هذه الدولة الصغيرة في جنوب شرق آسيا تكافح من أجل القضاء على وباء الفيروس التاجي الذي أصابها بشدة مما تعين على المواطنين التصويت لانتخاب أعضاء جدد لتحديد اسم رئيس الوزراء الجديد وستكون هذه هي المرة الأولى التي لم تقدم فيها عائلة لي ( الزعيم الراحل) وأب النهضة في البلاد منذ استقلال سنغافورة مرشحًا لرئاسة الدولة وهي العائلة التي توجد في السلطة منذ بداية ستينيات القرن الماضي. لقد كن 10 جويلية 2020 عطلة رسمية في سنغافورة وبوجود تفشي لفيروس كورونا حيث التشريع السنغافوري يجعل التصويت إلزاميًا لا يزال ساريًا على المواطنين الذين تزيد أعمارهم عن 21 عامًا مع بعض التعديلات الصغيرة. لذا فقد خططت سنغافورة لفتح عدد أكبر من مراكز الاقتراع من أجل تجنب الازدحام وحجز الصباح لكبار السن و فرض في نهاية اليوم وقتًا خاصًا للأشخاص الذين تزيد درجة حرارة الجسم لديهم عن 37.5 درجة أو ضعف في الجهاز التنفسي. لكن هذه الأجهزة الجديدة لم تكن كثيرة ولا حتى الحظر على تنظيم اجتماعات سياسية مادية خلال حملة انتخابية صريحة (قبل تسعة أيام فقط من تاريخ الانتخابات المعلن عنها في نهاية جوان) هي التي جعلت هذه الانتخابات تاريخية. تقاعد عائلة لي كوان يو هذه الانتخابات كانت تاريخية بسبب غياب انتخاب عائلة لي التي تسود على جمهورية سنغافورة منذ استقلالها عام 1965. لأن رئيس الوزراء المنتهية ولايته في منصبه منذ عام 2004 (بعد أن كان رقم 2 من منذ رحيل رئيس وزرائه عن والده عام 1990) أعلن أنه سيتقاعد من رئيس السلطة التنفيذية عندما يبلغ السبعين من عمره ويفي بوعده اليوم قبل عامين في هذا الموعد النهائي المعلن فهو نجل لي كوان يو الأب المؤسس لسنغافورة الذي تفاخر بإحضار هذه الدولة الصغيرة في العالم الثالث إلى العالم الأول في غضون عقود قليلة هذا التكوين الجديد كان عشية الانتخابات رمزي للغاية لأنه مع نفس الحزب الذي لا يزال يشكل أغلبية كبيرة في كل انتخابات منذ الاستقلال ظلت سنغافورة فخورة بتقديم صورة الاستقرار والأمن لهؤلاء المواطنين مثل جميع المستثمرين الأجانب الذين جاؤوا على مدى عقود لإثراء سوق الأسهم العالمية. ولكن عندما تم الإعلان عن موعد الانتخابات دون ممثل من عشيرة لي كوان يو أصبح إرث الأب المؤسس المحبوب أكثر تشققًا عندما تحدث ابنه الأصغر مؤكداً له أنه سيدعم المعارضة من خلال صفحته على فيسبوك وعدة مقاطع فيديو وبعض التبادلات النادرة مع الصحافة المحلية استطاع الأخير أن ينتقد أولاً مجرد إجراء الانتخابات من خلال ضمان: سيتعين على السنغافوريين الخروج للتصويت عندما يفضلون البقاء آمنين في المنزل. ولكن أيضًا الوجه الحالي للحزب الذي أنشأه والده من خلال إطلاقه على سبيل المثال: لم يعد هناك قادة في الحكومة فقط دافعي الورق الذين يسعون فقط لجعل الإمبراطور سعيدًا أو ضمان المزيد بوعي أن حزب العمل الشعبي لم يعد حزب والدي فقد ضل طريقه . انتهى تصريحه. إن الأشقاء لي معروفون بالفعل بمشاجراتهم العامة على منزل الأب المؤسس الذي كان الأكبر حيث أراد تحويله إلى متحف عندما أراد الطالب اتباع نية نظيره الأب وبالتالي تدميره من أجل عدم تشجيع عبادة الشخصية - هذا الممثل لعائلة لي الذي يقف اليوم للمعارضة هو حجر مقدس في حذاء الحزب الحاكم والذي يجب بالإضافة إلى ذلك أن يبرر إدارتها لوباء الفيروس التاجي. متلازمة 1942 تعود لأن لقد أثر على نموذج هذه الحالة الصغيرة المفتوحة للعالم والتي يجب أن تكون قد أدركت بفضل الفيروس أنها بعيدة عن الاكتفاء الذاتي من حيث الطعام فدولة سنغافورة تعتمد على أكثر من 95 بالمائة من غذاءها المستورد وأن ثروة البلاد تعتمد أكثر من أي وقت مضى على دينامية التجارة مع الخارج وأن الظروف الصحية التي عاش فيها الملايين من العمال الأجانب غير المستقرين الذين جاءوا لبناء أفاق البلد الذي تفخر به. إنه يشبه إلى حد ما متلازمة عام 1942 عندما كانت سنغافورة تنتمي إلى الإنجليز الذين كانوا ينتظرون اليابانيين عن طريق البحر لكنهم عانوا من هزيمة مُروعة عندما وصل العدو إلى شبه الجزيرة الماليزية. حيث عاشت سنغافورة لعقد من الزمان خوفًا من وقوع هجوم وفي نهاية المطاف لم يصل التهديد إلى الدرجة المتوقعة وظهر في مهاجع العمال المهاجرين. وهذه التحليل هو من وجهة نظر الدكتور فيكون الاستاذ في العلوم السياسية في سنغافورة. ولكن يؤكد الباحث لقد كشفت الأزمة الصحية في الغالب عن المشاكل التي كانت موجودة بالفعل أدت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على وجه الخصوص إلى إضعاف اقتصاد سنغافورة بالفعل. وقد اعترف مرشح الحزب الحاكم بذلك بنفسه في مقابلة قائلاً: وضعنا المالي سيكون أضعف بكثير في السنوات القادمة . لذا أعتقد أنه أكثر من دورة جديدة في تاريخ سنغافورة أو فصل جديد إنه نموذج جديد أو كتاب جديد يمكن أن يبدأ. أزمة أكثر خطورة من سابقتها كان من الصعب القول قبل الانتخابات ومع حظر الاستطلاعات خلال الحملة الانتخابية والصحف غير النقدية إلى حد ما من الحكومة في بلد احتل المرتبة 158 من أصل 180 في حرية الصحافة في عام 2020. لكن بعض العلامات يمكن أن تشير إلى رياح جديدة مثل الالتماس ضد رمز التتبع الذاتي الذي أطلقته الحكومة والذي جمع أكثر من 50000 توقيع بين ستة ملايين نسمة أو مشاهد الشراء مع الذعر التي حدثت في محلات السوبر ماركت حتى عندما حاولت الحكومة طمأنة السكان من خلال استحضار الاحتياطات المتخذة ضد خطر النقص. لقد أظهر رئيس الوزراء المنتهية ولايته أيضًا علامات قلق على سبيل المثال من خلال استجواب السنغافوريين عبر الفيديو: هل يمكننا أن نظهر للعالم أن السنغافوريين ما زالوا شعبًا موحدًا يدعم زعمائهم بقوة؟ في مواجهة أزمة وصفت بأنها أكثر خطورة من جميع الأزمات السابقة. ومن خلال ما سبق لا شك أن السنغافوريين سيتذكرون انتخابات 2011 وهي صدمة للحزب الحاكم الذي حصل على أسوأ نقاطه بنسبة 60 بالمائة من الأصوات. وهاهو الحزب الحاكم يفوز بهده الانتخابات التشريعية لكن بنسبة قليلة أي أنه فوز ضعيف حسب ما علقت عليه جريدة لوموند الفرنسية حيث أن حزب العمل الشعبي حكم سنغافورة دون انقطاع منذ سنة 1965 أي منذ تاريخ استقلال سنغافورة وهاهو الحزب الحاكم يفوز بدون أن يحدث المفاجأة حيث كان الكل يتوقع فوزه ولكن لم يكن متوقعا هذه النسبة من الفوز للمعارضة المؤيدة من طرف العديد من الشباب ومهما يكن فإن هذه النتيجة ستؤدي إلى تثبيت النظام السنغافوري والذي يعتمد في شرعيته التاريخية على قدرته في ضمان استقرار نموذجه الاجتماعي والاقتصادي. إن تحقيق نسبة فوز ب61.1 بالمائة من طرف الحزب الحاكم (حزب العمل الشعبي) هو بالتأكيد أداء يحلم به أكثر من حزب سياسي في دول أروبية. نتائج محيّرة ولكن في هذه الجمهورية السنغافورية التي يسيطر عليها حزب حاكم ذو ميول قمعية طوعية حيرت النتائج المراقبين: كحزب العمال في فرنسا وهو تشكيل ديمقراطي اجتماعي فاز بعشرة مقاعد من أصل 93 مقعدًا في الجمعية الوطنية. وقد حصل بالفعل على ستة مقاعد في البرلمان وسيكون مرة أخرى الحزب المعارض الوحيد الذي لديه أعضاء وبالمقارنة مع نتائج الانتخابات الأخيرة في عام 2015 حيث حصل حزب العمل الشعبي الحاكم على ما يقرب من 70 بالمائة من الأصوات فإن الحزب المهيمن يحتفل بهذا الفوز الضئيل. حيث اعترف رئيس الوزراء لي هسين لونج في مؤتمر صحفي بالقول أن انتصارنا لا يمكن إنكاره لكن النتائج تعكس القلق الذي يشعر به السنغافوريون خلال هذه الفترة من الأزمة وفقدان الدخل والخوف من البطالة . انتهى تصريحه حيث أنه رئيس الحكومة منذ عام 2004. وكان يبلغ من العمر 68 عامًا وقد ألمح لعدة أشهر إلى نيته في تسليم السلطة بحلول عيد ميلاده السبعين. ولكن في هذا الركود الذي حدث بعد فترة الكوفيد مع التوقع بالانخفاض الكبير في الناتج المحلي الإجمالي لإحدى أغنى البلدان في آسيا من الممكن أن يميل رئيس الوزراء إلى الاستفادة قليلاً وأطول من خمس سنوات في المنصب. لقد صرح كذلك بأن الشباب يريدون رؤية وجود المعارضة في البرلمان بنسبة كبيرة وبطريقة غير مباشرة فهم يتطلعون إلى انتهاء حكم عائلة لي كوان يو التي تحكم منذ الاستقلال سنة 1965 تاريخ اعتلاء والدي زعيم النهضة في سنغافورة. انتهى التصريح. بلد كبير باقتصاده وفي الأخير يبقى الترقب لمستقبل هذا البلد حيث يواجه حاليا وباء كورونا ومعه وضع اقتصادي متضرر من الأزمة فهل سيمضي الحزب الحاكم في نفس السياسة الاقتصادية أم سيتكيف مع ما يتطلع إليه الشباب الداعم للمعارضة؟ المستقبل القريب سوف يظهر للمتتبعين للشأن السنغافوري لما ستؤول إليه الأمور حيث أن سنغافورة بلد صغير بشعبه ومساحته وموارده ولكنه كبير وعظيم باقتصاده وبمسؤوليه. لقد رحل هؤلاء الزعماء في صمت ووقار وهم الذين صنعوا جزءا مضيئا من تاريخ البشرية عكس الذين يهدمون التاريخ بمواقفهم السلبية وسوء تصرفاتهم أو الذين يعبرون عبر التاريخ بدون أن يتركوا ولو بصمة تذكرهم أو تخلدهم. فتحية تقدير وإجلال لروح لهؤلاء الزعماء وكم أنت محظوظ يا شعب سنغافورة الصديق ليحكمك الزعيم لي كوان يو هذا النموذج من البشر حتى وإن بقيَ جاثما على صدرك منذ استقلال بلدكم إلى يومنا هذا.