بقلم: صبحي حديدي* إذا كان تاريخ المقاربة بعيداً بعض الشيء بمعيار الزمن (صيف 2005) فإنه ليس كذلك بمعنى عناصر السياق والدلالة والمشهد التي تخصّ العراق المعاصر هذه الأيام تحديداً في مشهد الدولة التي خلّفها الاحتلال الأمريكي وتولتها إيران عبر وكلاء محليين تتقاطع عندهم المرجعيات الشيعية والميليشيات المسلحة والأحزاب المذهبية ليس بعيداً عن شبكات الفساد العابرة للمذاهب والطوائف وللأقاليم والعوالم. المقاربة المشار إليها هنا هي مقالة مسهبة بعنوان دروس من أجل ستراتيجية مخرج نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية بتوقيع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر حتى إشعار آخر قد يطول كثيراً. امتياز المقالة/ المقاربة أنها أفصحت عن المسكوت عنه في صفوف رجال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وكذلك على نطاق واسع لدى المراقبين والمحللين وتلك الفئة الأمريكية النخبوية التي تُطلق عليها عادة صفة الThink Tank. وأمّا ما أفصح عنه كيسنجر فهو التماثلات الآخذة في التزايد يومئذ بين التورّط العسكري الأمريكي في فييتنام والاحتلال الأمريكي للعراق من جهة أولى ومآلات الهزيمة العسكرية هناك مقابل عواقب استعصاء المخرج الأمريكي هنا من جهة ثانية فضلاً من جهة ثالثة عن ذلك الدرس العتيق الكلاسيكي الصائب أبد الدهر: أنّ كسب أية حرب لا يعني كسب سلامها أو أيّ سلام ربما! ثمة فقرة صاعقة جاءت في مقالة كيسنجر تقول التالي: من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة وأمّا العراق فهو أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري. لقد فُهم أنّ تحدّي الحرب الباردة هو البقاء السياسي للأمم – الدول المستقلة المتحالفة مع الولاياتالمتحدة والمحيطة بالاتحاد السوفييتي. لكنّ الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو – سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية . فهل أحدوثة هذه الأيام صراع مع إسلام جذري حقاً؟ أم هو ببساطة أكثر وحقيقة أوضح بين ميليشيات شيعية المذهب على وجه التحديد مقابل قوى سياسية وعسكرية وحزبية يختلط في باطنها رئيس وزراء (شيعي مع ذلك آت من قلب المؤسسة الاستخباراتية) وكتلة عسكرية وسياسية شيعية يقودها مقتدى الصدر وإقليم كردي شبه مستقلّ في الشمال غالبية مواطنيه من السنّة فضلاً عن وجود عسكري أمريكي يتقلص ببطء السلحفاة منذ العام 2003. ليس غبناً بحقّ أطروحة كيسنجر الافتراض بأنّ أحدوثة المواجهة الراهنة تبدو أقرب إلى ثنائي أمريكي – إيراني وأنّ مضامينها الراهنة تُترجم في الثأر لاغتيال قاسم سليماني تارة أو في تسليح الوفد الإيراني في مفاوضات جنيف حول برنامج طهران النووي تارة أخرى وهذه أو تلك من المغانم الأعمّ في سلال إيران الإقليمية الممتدة من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن والبحرين ومضيق هرمز. وليس غبناً استطراداً أن الأحدوثة إياها تواصل ما يشبه تفكيكاً منهجياً أقرب إلى التفضيح والدحر والكسر للأكذوبة العتيقة حول احتلال أمريكي سوف ينقل فيروس الديمقراطية إلى العراق وسائر المنطقة لأنّ الميليشيات لا تقصف المعسكرات الأمريكية وحدها بل تستهدف اعتصامات الاحتجاج السلمية ولا تتورع عن التصفيات الجسدية للناشطين. وحين اقترح كيسنجر مقاربته تلك التي تعمّد ألا تنطوي على تمييز بين إسلام شيعي وآخر سنّي كان البيت الأبيض قد حسم خياره في إعادة تركيب معادلة العراق السياسية على ركيزتَين شيعية وكردية وإبعاد السنّة إلى الهامش بعد تطهير ما سُمّى يومها ب المثلث السنّي وتجريده من كلّ أسباب المقاومة السياسية أو العسكرية. ولم تكن تلك مقامرة الهواة من المحافظين الجدد بتشجيع مباشر من كيسنجر وأمثاله فحسب بل توجّب أن تسير حثيثاً نحو استكمال ما بدأه اجتياح 2003 أي تمكين إيران أكثر فأكثر. وإلا سوى هذه المآلات ما الذي يقوله المشهد الراهن!