فاطمة طرقت باب البيت كانت تحمل في يسراها ابنها محمد وبيمناها تشد على الحايك الذي تبدو من خلاله شابة جميلة ورشيقة طويلة القامة. كانت بعض خصلات شعرها الأسود الحريري فلتت من تحت لحافها لتسفر عن جمال عاصميّ فاتن. - دق.. دق. - من الطارق؟ - أنا فاطمة أمي افتحي. فتحت سعدية الباب مندهشة: - هذه أنت! وهل أتيت وحدك؟ أين حماتك؟ - من فضلك أمي دعيني أدخل أولا. دخلت فاطمة بيت والدها كانت تبدو مضطربة فوضعت محمد الذي كان نائما على الكنبة. - ماذا هناك فاطمة؟ لماذا أتيتِ وحدك؟ - أمي رمضان طلقني. - ماذا؟! يا للفضيحة! هل جُن؟ ماذا سيقول الناس؟ وأخوك؟ وراحت تضرب بكفيها على خديها وفخذيها وهي تندب حظ ابنتها: - يا ناس ما هذه المصيبة؟! ابنتي تطلقت! ثم أُغمي عليها من كثرة العويل. - أمي انهضي وراحت فاطمة تمسح وجه أمها ببعض الماء. - لا لا أصدّق! ابنتي تطلَّق! ولماذا؟! - بعد أن وجد الفرنسيون السلاح الذي أخفاه أخي عمار في غرفتي أخذوني للتحقيق فاعترفت من شدة الخوف فأطلقوا سراحي بعدما ضربوني فما كان من رمضان وأمه إلا أن طرداني من البيت قالا إني خطر عليهم لا يرغبان في أن يشكّ فيهم الفرنسيون بحكم الصداقة التي تربط رمضان ببعض الأغنياء من أبناء فرنسا؟ - الأوغاد.. فليذهبوا إلى الجحيم! اسمعي فاطمة أنا أعطيتك وحدك اليوم تعودين مع طفل.. لا كما ذهبت وحدك ترجعين لوحدك كذلك لا أريد هذا الطفل لن يعيش في هذا البيت! - ولكنة ابني أمي! - هذا آخر كلامي ردِّي إليهم طفلهم لا أريده. - أرجوك أمي! - قلت لن يدخل بيتي. بعد أن يعود أخوك سعيد سيردّه إليهم لا أريد رائحتهم. بكت فاطمة وهي تحضن محمد بين ذراعيها. كانت في السادسة عشرة من عمرها بعد أن تزوجت في الرابعة عشرة من قريب جارتهم في حيّ القصبة التي لاحظت شطارتها في شغل البيت. والطبيخ الذي كانت الجارات يجتمعن حوله ليتبادلن الصحون فكان الجميع يرشح فاطمة كأحسن طباخة بينهن. كانت رائحة الشطيطحة والتبيّخة بالفول والجلبانة تدغدغ الأنوف والدرسة التي تتفنن في تحضيرها لتهرول كل واحدة إلى طنجرة فاطمة تتذوق طبيخها وتحظى بالوصفة. وصحن الكسكسي النحاسي الذي يتوسطه اللحم يوم الجمعة والذي يتقاسمنه والرجال في المساجد وهن يخضن في أنواع الحديث. كانت فاطمة تعلمت الحلوى العاصمية على امرأة يهودية كانت تعينها في شؤون البيت. وبدورها ماري جوزي التي عاشت في الجزائر وتتقن لهجتها ومطبخها كانت تعلّمها صنع الشاراك لمسكّر ولمشوّك ولعرايش ولقطايف حتى صارت نساء القصبة يطلبن فاطمة لتحضير طعام أعراسهن والحلوى فكانت سيدة الحفلات. *** جاء يوم الاستقلال فخرج الجزائريون إلى الشوارع يحتفلون فرحين بالنصر بعد سبع سنوات من ثورة مباركة. وخرجت فاطمة كذلك. كان أخوها عمار استُشهد قبل أشهر بعد أن قتلته مروحية الجنود وراحت تردد وهي تبكي ذكرى أخيها: تحيا الجزائر وتزغرد مع النساء. *** التفّت العائلة حول المائدة وما إن شرع المؤذن في الأذان حتى التقم كل منهم التمرة معجلا بالفطور. كان أول يوم رمضان صعبا على أغلبهم. وبعد صلاة المغرب عاد الجميع إلى صحونهم. شربة المقطّفة تزيّن القعدة. وإلى جانبها البوراك المحشوّ باللحم المفروم والبصل والبقدونس تسمع خرخشته وهم يفرمونه مستحسنين مذاقة. - أمي خالتي زوينة بعثت إلينا باللحم الحلو. - كثر خيرها هاكي ردي إليها بعض المثوّم وقولي لها صح فطوركم. - امممم.. ما ألذ طبيخ رمضان! بعدما أتم الجميع الأكل بادرت فاطمة بغسل الأواني حتى تتجهز للسهرة إثر خروج الرجال إلى المساجد. كانت كل واحدة من الجارات تتحضر لقعدة وسط الدار حيث يلتففن حول السني وكل واحدة تتباهى بما جادت به أناملها. كانت فاطمة أعدت شايا بالنعناع والصامصة ولبست سروال الشلقة الأبيض المصفرّ ولفّت شعرها بمحرمة لفتول وخيوط الحرير تتدلى على وجهها الناصع. - فاطمة أتحفينا ببوقالة أرسلت أخي الصغير مصطفى وقد ملأ لنا البوقال إلى جانب عين صنبور المسجد من عين مزوقة وعين بير جبّاح وعين سيدي رمضان وعين سيدي محمد الشريف وعين بير شبانة عين سيدي بن علي نريد بركة هذه العيون السبع. وضعت كل واحدة شيئا من حليّها الذهبي في البوقال يترقبن ما يخبّئه لهن الفال. - هَيَّ كل واحدة تعقد ثوبها وتنوي: هبطت لقاع لجنان فرشت زربية حرقست بحرقوس الذهب حتى لوذنيَّ افرحي يا يما سعدي ولّى ليَّ نستشفى في لعدو كما استشفى فيَّ . يامنة علامن نويتيها؟ - نويتها عليك فاطمة. فرحت فاطمة وتفاءلت بالفأل الحسن - تعّرفي فاطمة نْمْتك رحتِ لبلاد الناقوس. - وانا يامنة ما نمتينيش؟ - انت زبيدة نمتك سمينة. وضحكت النساء.. ها ها ها. - فاطمة فطوم في بحر ساقية في سما سلّوم عليك يا خليلتي نفني الدزاير ونزيد بلاد الروم هذي ليك خداوج. - من فمّك لربي. - زيدي لنا واحدة فطيمة زيدي لنا واحدة. - بيدي قطّعت اللحم بيدي درت لو بصارو بوذني سمعت لكلام وعرفت من قالو يا قوّال القول واش غادي تربح السبع في غيبتو خلي لكلاب تنبح . *** اِذهب أيها الأحمق! ألقت زهية بالعصا على محمد ففتحت جبينه الذي بدأ ينزف. - آآه.. أرجوك خالتي أنت تؤلمينني. - اذهب وإلا ضربتك ثانية! خرج محمد من البيت مسرعا بعد أن لفّ خرقة على جبينه. - ما بك يا بنيّ؟ سأل الجار محمدا. - لقد تعثرت على حجر عمي. - أنت تنزف كثيرا تعال سأرافقك إلى المستشفى. في مستشفى إسعد حساني ببني مسوس سأل الجار إحدى النساء التي كانت بمئزر أبيض يوحي بأنها من عمال المستشفى: - سيدتي من فضلك من أين مصلحة الاستعجالات؟ - اتبعني أنا ذاهبة إلى هناك. هل هذا ولدك؟ - ابن جاري وجدتُه ينزف فأحضرته. - أشكرك عمي أعرف الطريق إلى البيت يمكنني العودة وحدي. - حسنا سأتركه معك سيدتي. - قل لي بنيّ كيف حصل لك هذا؟ - كنت قلت لجارنا إني تعثرت على حجر ولكن هذا غير صحيح. في الحقيقة زوجة والدي ضربتني بعصا شجّت جبيني. دهشت سعدية التي كانت تعمل ممرضة في قسم الاستعجالات من كلام الطفل الذي أحست كأنها تعرفه وراحت تشفق عليه وهي تمسح على رأسه. - وهل كانت تضربك كثيرا؟ - أجل إنها لا تعاملني مثلما تعامل إخوتي لأنهم أولاد بطنها أما أنا فلست مثلهم. - هل أفهم أن والدتك ميتة؟ - أجل هكذا قال والدي. - أين تسكن يا ولدي؟ - ليس بعيدا عن المستشفى وراء البنايتين المقابلتين. - وكم عمرك؟ - ثماني سنوات. - ما اسمك يا بنيّ؟ - محمد.. محمد تركماني. - ماذا؟! قلت تركماني؟! سألت سعدية الولد مندهشة. - أجل. - هل أبوك رمضان؟ تعجب الطفل: - أجل إنه هو وهل تعرفينه؟! - لا أصدّق! أنت حفيدي محمد؟! وراحت تحضن الطفل وهي تبكي.. أمك حية يا ولدي. - هل ما تقولينه صحيح خالتي؟! - أجل يا ولدي إنها ابنتي فاطمة أنا جدتك سعدية. بعدما عالجت جرحه راحت سعدية تقص عليه قصة والديه ثم دعته إلى بيتها. ** ثماني سنوات مرت على طلاق فاطمة وهي لا تعلم شيئا عن ابنها كانت بدأت العمل مع صديقتها حياة في حلاقة النساء بمدينة القبة. وبعدما جمعت بعض المال اشترت بيتا في حيدرة تسكنه وأهلها. كان البيت شقة صغيرة من أربع غرف وسط المدينة في الطابق الثاني إحداها غرفة أخيها سعيد التي أثثتها له فاطمة هدية لزواجه. كان سعيد أصغر من فاطمة لذلك كانت تعامله معاملة الابن فلا تعزّ عليه شيئا. لم تكن ترغب في أن ينقصه شيء بل تؤثره على نفسها معوِّضة به حنان ابنها ولكن سعيدا كان قاسي الطبع فمادام الولدَ الوحيد في البيت كان يرى أن من حقه أن يعود إليه كل شيء حتى مال أخته. - وسخ الدنيا.. لا يقرب الرجل مال المرأة.. ولكن تصرفه كان يكذّب قوله. - أين كنتِ؟ با.. صفع سعيد أخته على وجهها التي تأخرت عن البيت نصف ساعة عن المعتاد. - كنت في العمل لقد تأخرنا قليلا كان هناك الكثير من الزبونات. - لا يهمني لا أريدك أن تتجاوزي الخامسة. - ولكن قد نتأخر خاصة في نهاية الأسبوع أو المناسبات. - أغلقي فمك لا تجادليني قلت لا يهمني وإلا تغادرين العمل وتبقين في البيت. ومع أن سعيدا أصغر من أخته بتسع سنوات إلا أنه لا يحترمها كان يرى أن من حقه تأديب أخته ولو كانت كبيرة فهو رب البيت ماذا سيقول الجيران لو تتأخر عن العودة؟! كان سعيد عنيف الطبع لا يعذر أحدا ولا يحسن معاملة النساء فهن خُلقن حسبه لخدمة الرجال فلا يحق لهن رفع أصواتهن ولا حتى التجمل بشعورهن ولو في البيت فكان لا يرضى بشعر أخته إلا وهو مجموع حتى لا يصادف شعرة في طعامه أو يقلب عليها الطاولة. ولا يسمح لها بإطالة الأظافر أو طلائها. والمرأة في نظره غبية لا قيمة لها ولا رأي ولا عمل إلا تنظيف البيت وتحضير الطعام وتربية الأبناء وسمع أوامر الرجل وطاعتها. - أحضري لي فنجان قهوة أسرعت فاطمة بإحضار القهوة لأخيها قبل أن تغيّر ثيابها حتى لا تطيل عليه وإلا يوبّخها. - قهوتك. لم يكن على محمد الذي كان مستلقيا وساقه اليمنى تعلو اليسرى وهو يشاهد التلفاز أن يشكر أخته فمن واجبها أن تخدمه ومن البديهي أن تحرص على راحته. - دق.. دق - اِفتحي الباب. - حاضر.. آه أمي هذه أنت؟ مرحبا. - ادخل يا ولدي قالت سعدية. - من هذا أمي؟ - سأخبرك ادخل محمد. أسرع سعيد إلى الباب يتحسس مِن الوافد عليهم - من هو أمي؟! سأل سعيد والدته بنبرة غضب مقطّبا حاجبيه وهو يتفرس في الصغير. - محمد اقترب.. هذا محمد بن فاطمة. - ماذا؟!.. اندهشت فاطمة وأخوها. - أين وجدتِه أمي؟ سألت فاطمة أمها وعيناها ممتلئتان بالدموع. - وجدته في المستشفى جاء ليخيط جبينه بعدما شجّته زوجة والده. - محمد.. أنت ابني.. وراحت فاطمة تعانقه وهي تبكي. - ماذا؟! لا أبدا.. لا أريده في هذا البيت هَيَّ عد من حيث أتيت لا مكان لك هنا لا أريد رؤيتك ثانية اغرب عنا اخرج. أحذّرك لا تعد إلى هنا مرة أخرى. خرج محمد مسرعا وهو يمسح دموعه. - لماذا فعلت هذا يا سعيد؟ سألت فاطمة سعيدا وهي تبكي. - لماذا يا ولدي؟ - لا أريد رؤيته مجددا أحذركما. ثم التفت إلي فاطمة مهددا ومشهّرا سبابته: - لا أعرف لك ولدا. *** فرحت فاطمة بخِطبة أخيها سعيد كل مدخراتها خصّصتها لفرحه. - اخترتُ لأخي عروسا مثالية جميلة جدا عيناها كعيني قط خضراوان وشعرها أشقر كالنجمات إنها تجيد إلى جانب عمل البيت الطرز والحياكة كما إنها عاملة إلا أن أخي بعد العقد سيلزمها بالبقاء في البيت. - إيه عمل المرأة عيب عندنا أجابتها جارتها طاوس التي جاءت لتزور فاطمة ووالدتها. بعد أن قعدت كل من المرأتين على هيدورة عيد الأضحى التي كانت فاطمة تتفنن في تسريحها حتى تصير ناعمة وناصعة البياض. جلست سعدية على الكنبة بعد أن كانت مستلقية عليها. - فاطمة أحضري لنا لخفاف الذي عجنتِه. - جميل يعطيك الصحة فاطمة يبارك في هذوك اليدين. - يبارك فيك طاوس تفضّلي بالأكل إنه ساخن. وراحت فاطمة تكرم الضيفة ثم أفرغت فنجان قهوة لوالدتها ولها كذلك. - لذيذٌ جدا كثّر خيركم. ومتى تحضرون العروس؟ - هذا الصيف. - آه.. لم يتبقّ الكثير. - أجل سعيد يعقد قرانه المدني هذا الأسبوع. - مبارك عليهما. - شكرا طاوس العاقبة لفرح ابنك مصطفى. - وكيف وجدتم أخيرا عروسا لسعيد؟ سمعت أنه لم يرض بالكثيرات. - عرّفتني عليها صديقتي حياة كانت كثيرا ما تلتقيها في محطة القطار إنها بنت عاقلة وجميلة كما تحسن الطبخ خاصة. - جميل. *** سعيد من كثرة التدخين كان نحيفا جدا أسمر لا يكاد يبتسم. كان مظهره لا يبعث على الاطمئنان. يبدو ذا طبع عنيف تقرأ الغضب في وجهه. كانت وردة تخافه كثيرا فهو لا يحسن التحدث إلى النساء وإليها خاصة. أغلب حديثه أوامر لا بد أن تنفَّذ في حينها من غير جدل أو مواربة. لم يكن سعيد يسمح لزوجته بالخروج إلا رفقة أمه أو أخته من أبيه. وكان لزاما على وردة أن تطيع كلاّ منهم فلا رأي لها إلا رأيهم ولا حتى تستطيع الحديث بعفوية فما كان عليها إلا السمع والطاعة حتى أهلها لا تزورهم إلا نادرا في الأعياد أو الأفراح والأقراح. وحديث الهاتف لم يكن متحفَّظا مادام في غرفة المعيشة فالكل يسمع لذلك كثيرا ما كانت وردة تكلم أهلها في أمور عامة على عجل لا تزيد على بضع دقائق. *** ورُزق سعيد بأربع بنات كان الكل ينتظر على أحر من الجمر ولدا ولكن سعيدا ظل أبا البنات. لم تكن وردة تعرف الراحة تستيقظ فجرا تحضّر القهوة ثم شغلُ البيت فتوقظ البنات اللائي لم يكن بين كل منهن أكثر من فارق سنة لتتفرغ لهن تنظّفهن وتمشط شعرهن الخشن الذي تحاول تسريحه وتقدم لهن الأكل واللعب لتلتفت إلى الملابس تغسلها بيديها ثم الغداء لتأكل على عجالة كآخر من يلتحق بالطاولة وأول من ينهض عنها حتى تغسل الأواني ثم تحضّر شيئا يؤكل مع قهوة العصر عجينا كان أو حلوى فالعشاء ليصل سعيد وطلباته فمائدة العشاء لتبادر بغسل الأواني مرة أخرى ثم تنوّم البنات فلا تخلد إلى النوم إلا وهي منهكة وهكذا دواليك.. *** - أمي احملي نجاة. وردة أعطيني الصفيحة والمفتاح رفعت سعدية نجاة إلى الأعلى بعد أن حملتها إلى عتبة الباب وراحت فاطمة تقفل الصفيحة بالمفتاح. ** بقي محمد يزور والدته في الخفاء أمام مقر عملها بعد أن أعطته جدته سعدية العنوان. - محمد سأسافر إلى فرنسا. - ولماذا يا أمي؟ إذن سأرافقك. - لا يا ولدي سأتزوج شقيق زميلتي حياة قصد أهلي لخطبتي فوافقت. تركت فاطمة رقم الهاتف والعنوان لمحمد حتى يتمكن من التواصل معها. - سأشتاق لكِ يا أمي. - وأنا أيضا يا ولدي. مسح كل منهما دموعه وهما يودّعان بعضهما. *** ترمّلت فاطمة بعد خمس سنوات من زواجها من نذير. وكان عليها أن تعمل. لم تكن التحقت من قبل بالمدرسة لذلك لم تجد خيارات كثيرة في العمل فما كان منها إلا أن تقبل بالتنظيف في شركة البناء التي عمل فيها زوجها. كانت تبكّر حتى تلتحق بالقطار السريع في الخامسة صباحا لتصل إلى العاصمة باريس في السادسة. حاولت فاطمة أن تدّخر بعض المال حتى تزور أهلها في الجزائر كلما تسنح لها الفرصة محمَّلة بالحقائب الممتلئة عن آخرها بمختلف المأكولات والملابس للجميع حتى الأصدقاء من دون أن تنسى أحدا. - هذي ليك خويا لعزيز بدلة آخر موضة من النوعية الرفيعة. - أوو.. لاكلاس! - على فكرة أخي سأكتب هذا البيت باسمك. - إذن نباشر الإجراءات من غد. - نعم. *** - رن.. رن. - ألو.. - ألو.. عائلة نعيم؟ - أجل من المتحدث؟ - أنا محمد أود التحدث إلى أمي فاطمة. - ماذا؟ أمازلتَ تتصل بهذا البيت؟! لا تجرؤ على ذلك ثانية! وأقفل سعيد في وجه محمد ثم نظر إلى أخته مهددا من جديد ومذكرا بمسلسل عقود مرت نار حقده لم تخمد: - كنت حذّرتك من قبل لا أريد أن يتصل ابنك ببيتي! جمعت فاطمة أغراضها واتصلت بمحمد ليأخذها إلى بيته بضعة أيام. ** كان محمد يقطن غير بعيد عن الجامعة التي كانت تدرس فيها صفية لذلك كانت صفية تزور عمتها أحيانا فتعرفت على محمد وزوجته وبنتيه رقية وعائشة. كان محمد وعائلته الصغيرة أناسا طيبين ولكن والدته لم تكن تحب زوجته ومع ذلك كثيرا ما تغاضت سهام عن تصرفات حماتها رحمةً بزوجها الذي حُرم من والدته حتى كبر. ** تزوجت بنتا محمد ففرح بذلك كثيرا كان يرغب في أن يكون خاله حاضرا ليشاركه الفرحين ولكنه خشي أن يُطرد كما طُرد من قبل. وبقيت بنات سعيد عوانس تجاوزن الأربعين ولا خاطب طرق بابهن لم يكن ينقصهن جمال أو ذكاء كل منهن كانت ذات منصب. - توحشنا نسّمعو تولويلة في دارك قالت الجارة لوردة. حزنت وردة من كلام جارتها وولّت وجهها نحو بيتها - بقّيتك على خير زوينة. كتمت وردة حزنها فهي تشكو بثها وحزنها إلى خالقها. *** - صفية هذه أنت أ ليس كذلك؟! - بلى من أنت؟ لم أعرفك. - أ لم تتذكريني؟ أنا رقية ابنة محمد ابن عمتك. - اعذريني مرت سنوات طوال نسيت ملامحك. كيف حالك وحال أهلك؟ - نحن بخير. هل من أخبار عن جدتي؟ - لا لا ترغب في الحديث معنا قاطعتنا حتى في الأعياد ترفع السماعة وتضعها جانبا ولا تردّ. - وكذلك تفعل معنا حتى أبي لا ترغب في التحدث معه. - خذي هذا رقم هاتفي أخاف أن يحصل لها مكروه فإذا سمعت جديدا عنها أرجو أن تتصلي بي. ** - ألو صفية.. مساء الخير. - مساء الخير نهال. - قرأت للتوّ في فيسبوك منشورا عن وفاة امرأة جزائرية تعيش في مدينة ليل الفرنسية وحيدة تُدعى فاطمة نعيم قلت قد تكون قريبتك صاحب المنشور ترك رقمه سأبعثه لك. دهشت صفية من الخبر وراحت تتحقق - ألو.. - ألو.. نعم - أتصل من الجزائر عن الإعلان الذي نشرته سيّدي في فيسبوك عن السيدة فاطمة نعيم التي توفيت. - أجل هل أنت قريبتها؟ - نعم سيدي - أنا رضا ابن صديقتها دوجة خالتي فاطمة رحمها الله توفيت قبل خمسة عشر يوما أثناء عملية جراحية في مستشفى ليل الجامعي. عليكم أن تسرعوا بنقل الجثة أو سيحرقونها بعد خمسة عشر يوما إن لم يأت أحد مازالت في مصلحة حفظ الجثث هناك. - أشكرك سيدي. لم تصدّق صفية ما سمعته فأقفلت الهاتف وهي تجهش بالبكاء. - أبي عمتي ماتت. - ماذا؟! - الخبر منشور في فيسبوك. وراحت صفية تُهاتف رقية. ** صادف يوم دفن فاطمة في الجزائر يوم عاشوراء كثيرا ما كانت فاطمة تشفق على المساكين وتتصدق وتحرص على إخراج الزكاة في وقتها. ** - محمد ابني هذا دفتر توفير والدتك ناولت وردة الدفتر محمدا وبدوره سعيد ناوله مفاتيح السيارة التي كان يقودها منذ سنوات - لا يا خالي السيارة تبقى معك كذلك كانت دائما فهي لك. لم يصدّق سعيد ردة فعل ابن فاطمة الذي كان يطرده في كل مرة ولم يقبل به يوما قريبا له في حياة أخته. وبقي محمد يصل خاله ويتقرب منه حتى كسب مودته وصداقته بعد أن كان سعيد خسر كل صديق. * الجزائر في 27/ 02/ 2021