تأويل غير مفهوم للمادة ال80 من الدستور التونسي بقلم: الدكتور جمال بلعربي قام الرئيس التونسي قيس سعيد يوم الأحد الفارط بخطوة فاجأت الجميع حيث أصدر حزمة قرارات غير مسبوقة تقضي بتجميد عمل مجلس نواب الشعب وإقالة الحكومة وتكليف وكلاء الوزارات وبعض القيادات الأمنية بإدارة شؤون البلاد. واعتمد في هذه القرارات على تأويل خاص جدا للمادة 80 من دستور 2014 التونسي والتي تسمح لرئيس الجمهورية باتخاذ تدابير استثنائية عند وجود خطر داهم يهدد البلاد. يشترط اللجوء إلى الفصل (المادة) 80 من الدستور التونسي تقدير وجود خطر داهم يهدد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها ويعود التقدير هنا لرئيس الجمهورية. وهذا ما رأى الرئيس قيس سعيد أنه واقع فعلا في تونس وأنه يستوجب تدخله بصفته هذه. لكن المادة نفسها تشترط مشاورة كل من رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة قبل تفعيلها. مما يعني أن قرار اللجوء إلى هذه المادة لا يمكن أن يكون ضدهما إن لم يكن بموافقتهما. فلا معنى لتفعيل مادة من الدستور بطريقة غير مطابقة للنص وضد المؤسسات التي تنص المادة على وجوب حمايتها من أي خطر داهم يعطل نشاطها. كما تستوجب المادة مراعاة الهدف المحدد بصريح نصها وهو تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال وليس تعطيل دواليب الدولة ولم تضع المادة أي استثناء يفتح باب تأويل النص بالنسبة لما يتعلق بالهدف من تفعيلها. فالهدف من هذه المادة هو حماية الدولة أي حماية مؤسسات الدولة وضمان سيرها الطبيعي. وهذا يتطلب العمل المتواصل مع المسئولين في تلك المؤسسات وتحميلهم مسؤولياتهم وتوفير الشروط الضامنة لممارسته تلك المسئوليات. كما يمنع نص المادة رئيس الجمهورية صراحة من حل مجلس نواب الشعب ومن مجرد تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وهذا أضعف بكثير من إقالتها . كما أن تجميد نشاط مجلس النواب غير منصوص عليه في الدستور تحت أي طائل. مما يعني أن تفعيل هذه المادة يستوجب قبول التعامل مع الحكومة ويستوجب استمرار مجلس نواب الشعب في ممارسة نشاطه وتمنع المادة بصريح النص توقف تلك النشاطات إذ تفرض على المجلس أن يكون في حالة انعقاد دائم أي في حالة نشاط دائم وهو ما يخالف التجميد الذي قرره الرئيس سعيد. أما من الناحية الإجرائية فتنص المادة على وجوب تفعيلها بمشاركة مجلس نواب الشعب بحيث أنه بعد 30 يوما من تفعيلها يتوجب على رئيس مجلس النواب أن يستشير رئيس المحكمة الدستورية في إمكانية توقيف العمل بها أو استمراره. وفي الحالة التونسية وفي حالة تفسير المادة على حسب قراءة الرئيس قيس سعيد ستنتهي بمأزق مؤسساتي نظرا لغياب المحكمة الدستورية التي تأخر مجلس النواب في تشكيلها ورفض قيس سعيد المراسلة التي وافاه بها نواب المجلس قبل شهور من أجل تشكيلها بتعلة أن الآجال القانونية قد انقضت ولا يمكنه القبول بأي خرق للدستور ولو شكليا على الرغم من أن تجاوز الآجال الدستورية ليست من مسؤولية مجلس الشعب وحده لأنه لا يشكلها بمفرده بل بالاشتراك مع رئيس الجمهورية. غير أن قيس سعيد كثيرا ما كان يرفض التواصل مع رؤساء الحكومات الذين يختارهم ويعينهم ويتحفظ على بعض من الوزراء الذين يعينون من طرفه أيضا ويحسبون عليه. ودخل في عملية كسر عظام مع رئيس مجلس النواب. وكثيرا ما كان يقوم بتصرفات غير مألوفة في الحياة السياسية والمعاملات الإدارية بين المسؤولين فينزل إلى الشارع لتحدي رئيس حكومته أو يراسله بالبريد المكتوب ويسجل المراسلة في فيديو ويبث التسجيل على صفحته في منصات التواصل الاجتماعي بدلا من الاتصال به هاتفيا. ويرفض إمضاء قرارات تعيين الوزراء الذين نالوا ثقة البرلمان. قيس سعيد ومنذ بداية عهدته ظهر عليه الرفض الصريح والعلني للصلاحيات التي يحددها له الدستور وتأكد أنه يرغب في حضور أوسع على مستوى السلطة التنفيذية. لكن وجوده خارج الطبقة السياسية وغيابه عن دوائرها جعل من المستحيل أن يتم اقتراحه رئيس حكومة. ومع ذلك فقد قبل بقواعد اللعبة كما ينص عليها دستور 2014 الذي طالما طالب باحترامه وانتقد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي لعدم احترام بعض شكلياته. وترشح لرئاسيات 2019 ونال ثقة حوالي 70 بالمائة من الناخبين أمام منافس موقوف كان قد بنى حملته على اتهامه بالفساد. رأس مال قيس سعيد السياسي هو انعدام الماضي السياسي وبالتالي عدم تحمل أية مسؤولية عن إخفاقات الطبقة السياسية. وهو ما يترجمه بنظافة يده وإصراره على محاربة الفساد. ويبرر اتهاماته المتكررة لجهات لم يفصح عنها يقول إنها تعمل على عرقلته والإضرار بالبلاد والعباد. واستعمل هذا الغموض لإنتاج خطاب متوتر وتهييجي انتهى بالقرارات الأخيرة والمبررة بتفعيل المادة 80. إلى حد الآن أعلنت حركة الشعب مساندتها المطلقة لقرارات سعيد وتحفظ التيار الديمقراطي عن المساندة الرسمية على الرغم من المساندة الصريحة لبعض من نوابه. وهو ربما ما يفسر التصريح الأخير ليلة الثلاثاء الماضي أمام منظمات المجتمع المدني وليس أمام إطارات الدولة أو الأحزاب المساندة. وهكذا يضاف إلى غرابة المشهد تفصيل غير مألوف في الحوليات السياسية وهو تسيير الشأن العام ودواليب الدولة بمشورة كتلة نيابية بسيطة جدا ضد الكتل الكبيرة التي فشل الرئيس في تمرير أية حكومة ضدها أو معها بأي شكل كان. في هذا السياق لن يستطيع قيس سعيد حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة ولن يستطيع تشكيل حكومة بطريقة دستورية ولن يستطيع إدخال أي تعديل على الدستور ولن يستطيع فرض تجميد عمل مجلس النواب بأية مادة قانونية ودستورية ولذلك لجأ إلى تسخير القوة العسكرية لمحاصرة مقر البرلمان وغلقه. والأكثر من ذلك لن يستطيع التراجع عن خطواته لإعادة الوضع المؤسساتي إلى ما كان عليه. فقد وضع البلد أمام وضع ثوري دون توفر شروط اللحظة الثورية على الرغم من تسويق الأحداث من طرف بعض الملاحظين والنشطين على أنه استرجاع للثورة. كل المؤشرات تشير إلى أن المخرج الوحيد والقانوني الذي يمكن أن تلجأ إليه القوى السياسية المعارضة للرئيس قيس سعيد لتجاوز المأزق سيكون ضده شخصيا وبصفته. ونتوقع أن تتشكل خريطة سياسية جديدة بأغلبية من المكونات الحالية وقد تظهر إلى صدارة المشهد بعض الأسماء من الصف الثاني أو الثالث لكن دائما في إطار المكونات الحالية والمتجذرة في الحياة السياسية التونسية. فالقوى السياسية المكونة لنداء تونس مثلا لم تخرج من الساحة بل توزعت في المشهد بشكل جديد وكذلك القوى اليسارية والدستورية. لذلك نتوقع أن يكون هذا الحدث دافعا ثوريا حقيقيا يحرك الطبقة السياسية في العمق. نتمنى أن يكون ذلك من أجل تونس وأهلنا في تونس وتجنيب البلاد أي انزلاق أو انسداد أفق.