في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الثمانون- بقلم: الطيب بن إبراهيم *كنيسة الأبيض ومنارة أذانها على بطاقة بريدية إن العلاقة القائمة بين الاستعمار والتنصير علاقة استراتيجية قوية ومتكاملة فالتنصير هو المكون للمناخ الذي ضمن التبعية للاستعمار حتى بعد رحيله فالتنصير أبقى وأخطر من الاستعمار وثبت تاريخيا أن الاستعمار زائل وراحل عاجلا أو آجلا والتنصير أبقى وأعمق في النفوس والعقول والثقافات ألم يرحل الاستعمار الإسباني عن أمريكا اللاتينية دون رجعة لكن بقي التنصير إلى الأبد وأصبحت أمريكا اللاتينية إسبانية اللسان والمعتقد! فاستُرِدّت الجغرافية وفُقِد التاريخ ألم يكن التنصير سببا لانفصال تيمور الشرقية النصرانية عن إندونيسيا المسلمة سنة 2002 وانفصال جنوب السودان المسيحي عن الشمال المسلم سنة 2011 !. ومن جهة أخرى ففرنسا صاحبة أطروحة الجزائر الفرنسية فالتنصير هو أحد مقومات أطروحتها فلا يمكن تمرير وإنجاح طرح الجزائر الفرنسية بعيدا عن سياسة الفرنسة والتنصير لذا قامت سلطات الاحتلال بالدعم المادي والعسكري والإعلامي والدعائي لكتائب التنصير خاصة في الصحراء حيث البيئة الثقافية لا تساعد على ما هو عليه الحال في الشمال. فالاستعمار ليس سلطة سياسية وعسكرية فقط بل هو أيضا سلطة إعلامية وثقافية مكملة ومبررة للسلطة السياسية والعسكرية. وفي سياق دعم الاحتلال لسياسة التنصير والدعاية لها اتُّخِذ من فتح كنيسة إخوة يسوع الصغار التابعة لتلامذة شارل دي فوكو بمدينة الأبيض سيدي الشيخ اتُّخِذ من ذلك حدثا تاريخيا غير عادي وعُدَّ فتحا كبيرا للكنيسة ويسوع يجب أن ينال الحدث حقه من الإشهار والافتخار ليس من قبل الأوساط الكنسية فحسب بل من جميع الأوساط الفرنسية المدنية والعسكرية وبالفعل ومنذ اليوم الأول للإعلان عن تأسيس إرسالية الأبيض يوم 8 سبتمبر سنة 1933 بباريس تناوله الإعلام الفرنسي في اليوم الموالي 9 سبتمبر وهلّلّت للحدث وتناقلته بالكلمة والصورة كل الجرائد الفرنسية اليومية والأسبوعية خاصة الجرائد التالية : لوفيغارو Le figaro - الصليب Lacroix - الحياة الكاثوليكية La vie catholique- الأسبوعية الدينية لباريس La semaine religieuse de Paris- الأسبوعية الدينية لفرساي La semaine religieuse de Versailles- صدى وهران L echo D Oran- صدى الجزائرl Echo d Alger والمسائية L Excelior وهذا ما دفع برئيس الإرسالية روني فوايوم إلى القول : أن تأسيس إرسالية الأبيض أحدث ضجة إعلامية. كيف لا يفسر ذلك بالدعاية والإشهار للاحتلال والتنصير والحدث مجرد فتح كنيسة تنصيرية صغيرة بالصحراء بين السكان المسلمين لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا مربعا ( 4×5) وعدد الموجودين بها محدود جدا يعد على أصابع اليد الواحدة وهم خمسة قساوسة فقط هذا الحدث تقام له الدنيا ولا تقعد وتتناوله الصحافة الفرنسية بالصور والتعاليق لينقل بعد ذلك إلى بطاقة بريدية عابرة للحدود والقارات وما على العالم إلا أن يسمع ويرى. هذه هي الدعاية التي تحوِّل خمسة قساوسة عاديين إلى أبطال وصناع أمجاد وتاريخ وتجعل قاعة بمساحة عشرين مترا مربعا فتحا عظيما للكنيسة وحدثا تاريخيا ينشر وطنيا وعالميا تتناوله وسائل الإعلام والبطاقات البريدية بينما التعتيم يطال ما ارتكبته فرنسا في حق عشرات المساجد التي حُوِّلت لكنائس وإسطبلات ومخازن بل العشرات من مجازر وحمامات من الدماء في حق الجزائريين عقب الاحتلال وما صاحب ذلك من انتشار للفقر والجهل والأمراض والأوبئة والمجاعات بين الملايين من السكان وقتل وتشريد لمئات الآلاف وتدمير عشرات المدن ومئات القرى بل تدمير وطن بالكامل فلا أحد يسمع أو يرى. *البطاقة البريدية هي دعاية ورسالة البطاقة البريدية ليست مجرد صورة ومنظر هي رسالة مفتوحة وصورة معبرة تطير في كل الدنيا لتملأ العالم كله بالتواصل بين كل البشر وفي كل المناسبات تختزل المسافات لا توقفها الحدود ولا البحار والمحيطات هي بطاقة عابرة للبر والبحر لتجوب المدن والدول والقارات لذا تقوم الدول بطبع بطاقات بريدية تحمل صورا لشخصياتها الوطنية والتاريخية أو لإحدى معالمها الأثرية والفنية أو السياحية والحضارية أو لإنجازاتها العسكرية وهذا لتعتز به وتُعرِّف به كمَعالم سياحية طبيعية أو كتراث وإنجاز تاريخي وثقافي وحضاري. لكن عندما يحدث هذا الإشهار في حق كنيسة صغيرة الحجم حديثة العهد لخمسة قساوسة بنيت تحت مظلة الاستعمار في إحدى قلاع الجهاد والتصوف لإحدى المستعمرات الإسلامية فهذا لا يعني غير الدعاية للتنصير والتفاخر بمآثر الاستعمار في حق الشعوب المستعمرة. خاصة أن كل شيء في الصورة عربي: الخط عربي واللباس عربي والحيوان عربي والمبنى عربي والمحيط عربي ورئيس الإرسالية القس روني فوايوم يقف بلباس عربي بين العرب مع جمالهم. أمّا رسالة البطاقة البريدية المرفقة اسم على مسمى سواء في أصل البطاقة أو فيما كتب عليها ففي صورة البطاقة ومضمون الرسالة تطابقا كاملا حيث أن البطاقة تحمل صورة القس رئيس الإرسالية وتحمل صورة كنيسته بشكلها وهندستها العربية وكتب تحتها بخط عربي : كنيسة إخوان الخلوة بالأبيض سيدي الشيخ (عمالة وهران) وبجانبها بالفرنسية كتب : الكنيسة العربية بالإرسالية .فالصورة ومحتواها كنسي بحت . أما الرسالة الخطية المكتوبة على البطاقة البريدية فهي الأخرى رسالة ذات مضمون ديني لا يقل عن مضمون الصورة فهي مرسلة من الجزائرلفرنسا وليس العكس وهي مرسلة من كنيسة الأبيض إلى كنيسة كوتانس Coutances ومن رجل دين اسمه هولمر Hollemer وأكيد أنه مقيم بإرسالية إخوان الخلوة بالأبيض كما تقول البطاقة البريدية لأن الأبيض في ذلك التاريخ لم يكن بها فرنسيون مدنيون أو عسكريون وكأن مدينة الأبيض كانت تزخر برجال الدين فقط ووجهة الرسالة هي لرجل دين آخر مقيم بفرنسا يدعى الأب : بِدان Bidaine وتاريخ إرسال الرسالة هو يوم 25 ديسمبر سنة 1937 وعليها تأشيرة البريد بتاريخ 27 ديسمبر أي في السنة الرابعة بعد تأسيس الإرسالية!.