في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ *الجزء الثالث بعد المائة* بقلم: الطيب بن ابراهيم *شارل دي فوكو يوصي ماسينيون بأن يكون قساً متنكراً هناك فرق بين رجل الدين وبين الرجل المتدين فالشخص المتدين هو الذي يقتصر نشاطه الديني على نفسه ولا يتجاوزها إلى غيره فنشاطه الديني شخصي يخصه وحده دون غيره حيث يقوم بممارسة شعائره وطقوسه الدينية كما تتطلب منه عقيدته ولا علاقة عمل دينية أو قانونية تربطه مع الآخرين أما رجل الدين فلا يقتصر نشاطه الديني على نفسه فقط بل يتجاوزها للآخرين الذين يقوم بتقديم الخدمات لهم سواء كانت الخدمات من جنس الدين لأتباع ديانته كالوعظ والصلاة وخدمة المؤسسات الدينية من أديرة وكنائس أو خدمات أخرى اجتماعية واقتصادية وثقافية ذات أهداف وغايات دينية أو تنصيرية لغير المسيحيين وهو عادة ما يقوم به الكهنة والقساوسة والأساقفة ورجال الدين عامة وهذا لا يمنع أحيانا من وجود أشخاص متدينين ولهم كفاءات أكثر حتى من رجال الدين الذين درسوا وتخرجوا من مؤسسات وكليات دينية كما كان عليه حال المستشرق لويس ماسينيون. لقد اكتشف الأب شارل دي فوكو شخصية الشاب لويس ماسينيون الدينية والعلمية مبكرا منذ سنة 1904 وتكهن بمستقبله فخطط وعمل كلما بوسعه أن يضمه لنهجه قبل أن يسبقه إليه غيره وهذا واضح من خلال الرسائل والزيارات المتكررة إليه. منذ سنة 1904 بدأت علاقتهما تنمو وتتطور لتصبح علاقة روحية حميمية وتواصلت هذه العلاقة إلى غاية سنة 1916 تاريخ مقتل شارل دي فوكو وخلال تلك المدة عرف ماسينيون عن أستاذه الروحي ما لم يعرفه عنه الآخرون وأباح له بأسراره ومشاريعه وأوصاه بما لم يوص به غيره. بعد غياب شارل دي فوكو ثمان سنوات في الجزائر منذ سنة 1901 عاد لفرنسا سنة 1909 لمدة أربعة أيام فقط زار خلالها لويس ماسينيون وباتا معا ليلة 21فيفري سنة 1909 في قبو كنيسة القلب المقدس بمونمارتر كانت ليلة مظلمة يستشهد ماسينيون على ظلامها بقوله : إن الله يرى النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء وهي مقولة إسلامية وصحيحها هو: سبحان من يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . تواصلت ضغوط شارل دي فوكو على ماسينيون ليس عبر الرسائل فقط بل بمناسبات كل لقاءاته معه أثناء زياراته لفرنسا سنوات: 1909 و 1911 و1913 واستعان دي فوكو بصديقه في العسكرية سابقا الجنرال لابرين لإقناع ماسينيون بالالتحاق به وعاش ماسينيون مرحلة تردد صعبة ولم يحسم في الأمر إلا بعد أن أقنعه مستشاروه بالزواج خاصة القس بولان Paulin فتمت الخطوبة في شهر سبتمبر سنة 1913 وكان الزواج يوم 28 يناير سنة 1914 واستمرت العلاقة قوية بين ماسينيون ودي فوكو إلى آخر أيام حياتهما فآخر رسالة وصلت لدي فوكو يوم وفاته كانت من ماسينيون وآخر محاضرة من ماسينيون في السوربون كانت حول شارل دي فوكو. كانت هناك المئات من الرسائل مابين الأب شارل دي فوكو والمستشرق لويس ماسينيون ولم تتوقف المراسلات بينهما حتى في الأوقات الحرجة أثناء الحرب العالمية الأولى وكان من أشهر تلك الرسائل الرسالة المطولة التي أرسلها الأب شارل دي فوكو إلى الشاب لويس ماسينيون شهر سبتمبر سنة 1909 والتي يبدو فيها أن شارل دي فوكو كانت أطماعه كبيرة في التحاق ماسينيون به في منطقة الهقار ففي هذه الرسالة تطرق شارل دي فوكو لعدة قضايا كلها لها علاقة بالتنصير والتجسس ومصالح فرنسا وعرّف خليفته بالسكان وطبائعهم وثقافتهم ونوع إسلامهم (السطحي) حسب تعبيره وعرَّفه بموقع صومعته ومناخ المنطقة. فبعد أن عرّف شارل دي فوكو خليفته المحتمل لويس ماسينيون على منطقة الهقار التي يتراوح ارتفاعها ما بين 1500 إلى 2200 متر حسب وصفه وهي أقل ثلوجا وأمطارا وبرودة من فرنسا مع تشابه في الطقس أخبره بأن مكان صومعته يقع على بعد ثلاثة كيلومترات من مقر الملك لامينوكال بالهقار فالمكان مختار ومناسب لإقامة العلاقات مع السكان والملك وكذلك المكان مساعد على الاتصال (؟؟!!) ثم كرّر دي فوكو الدعوات لماسينيون للالتحاق به وعدّد له جاذبية المكان للتعبد وأكد له أنه حتى إن أراد أن يكمل دراسته التيولوجية هناك فالمكان مناسب طالبا منه أن يلتحق به وأن يعملا ويصليا معا طوال حياتهما وأن يأخذ ماسينيون مكان أستاذه بعد موته. لم يكتف شارل دي فوكو بالحركة التنصيرية المكثفة ضد المسلمين من طرف رجال الدين تحت غطاء الاحتلال بل أراد حرية أكثر لتحركهم بدون قيد أو شرط وحتى تلك الإجراءات الإدارية والشكلية لنشاط الإرساليات التنصيرية ورجال الدين رأى فيها شارل دي فوكو اضطهادا وعرقلة لمهام المنصرين. منذ سنة 1901 وهو تاريخ تواجد الأب شارل دي فوكو بصحراء الجزائر ومن خلال تجربته كمنصر وجاسوس خلال عدة سنوات بين السكان المسلمين بدأ يفكر في تأسيس جمعية رهبان وقساوسة منصرين متسترين بنشاطات ووظائف مستعارة سواء كانوا علماء أو تجارا أو مزارعين وهذا لإنجاح عملهم دون أن يعلم أحد بمهامهم كقساوسة متنكرين وبعد أن اقتنع شارل دي فوكو بمشروعه أباح به لمن يثق بهم من أقرب مقربيه وكان على رأس هؤلاء الأب هنري هوفلان Henri Huvelin 1830 - 1910 وهذا بمناسبة زيارة شارل دي فوكو لفرنسا في شهر فبراير سنة 1909 مع العلم أن الأب هنري هوفلان هذا هو الرجل الذي أثّر على شارل دي فوكو وكان وراء تحوُّله إلى حياة الرهبنة وذلك أثناء لقاء جمع بينهما في كنيسة القديس أغوستين في باريس في شهر أكتوبر سنة 1886 ونفس الفكرة قساوسة متنكرون عرضها على الأسقف ميشال فريديريك بوني 1835 - 1923. كان شارل دي فوكو يرى في مشروعه الجديد أن ينخرط الجميع في حقل التنصير وأن يوظفوا سرّا كقساوسة متنكرين بما فيهم المتزوجون يعملون تحت اسم عالم أو تاجر أو مزارع في نظر العالَم لاختراق كل العوائق وهذا هو الحلُّ لإنجاح مشروع التنصير حتى لا تغلق الأبواب دونهم ويبدو أن الفكرة قد لاقت استحسانا وتشجيعا بعد طرحها في فرنسا وبعد تفكير دي فوكو طويلا في مشروعه التنصيري أخذه على محمل الجد وقرر إخراجه إلى العلن والبوح به لمن يثق بهم من المؤهلين ميدانيا وبقى العنصر الأهم والملفت للانتباه هو رغبة شارل دي فوكو في تحويل ماسينيون من رجل متدين إلى رجل دين وبعد ستة أشهر من عودة دي فوكو من فرنسا إلى الهقار بعث برسالته الشهيرة بتاريخ 8 سبتمبر سنة 1909 إلى لويس ماسينيون الذي كان قاب قوسين من أن يصبح خليفة له في الهقار ليطلب منه صراحة الانخراط في العمل التنصيري وعليه أن يكون في حقيقة أمره قسا متنكرا لا يعرفه أحد وأن يكون في نظر العالَم عالِما كان شارل دي فوكو يعتقد حسب رئيس إرسالية الأبيض القس روني فوايوم أن ماسينيون إذا أصبح قسا متنكرا بين المسلمين فعمله يكون مثمرا أكثر كما يؤكد رئيس إرسالية الأبيض فوايوم أن دعوة دي فوكو ماسينيون ليقوم بمهمة قس متنكر في تحركاته ونشاطاته تحت غطاء العلم تواصلت منذ سنة 1909 إلى غاية سنة 1912 وذلك من خلال الرسائل المرسلة إلى ماسينيون.