في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الثاني والعشرون بعد المائة- بقلم الطيب بن إبراهيم *وفاة ماسينيون بعد تقدم سن لويس ماسينيون أصبح لا يتحمل السفر والمشاق كالمعتاد بين دول العالم ومدنه وحواضره وكان بين الفينة والأخرى يتعرض لبعض الأزمات الصحية كما حدث له أثناء تواجده بمؤتمر المستشرقين الخامس والعشرين المنعقد بمدينة موسكو عاصمة روسيا في شهر أوت سنة 1960 إذ سقط مريضا وادخل للمستشفى لعدة أيام وبعد علاجه وشفائه عاد لفرنسا وفي السنوات الأخيرة من حياته قلّت نشاطاته وتحركاته كما تعود على ذلك وبمناسبة حضوره عيد القديسين يوم 31 أكتوبر سنة 1962 أصيب بسكتة قلبية نقل إثرها إلى المستشفى حيث وافته المنية في ذلك اليوم على الساعة العاشرة ليلا وبعد أسبوع تم دفنه ضمن مقبرة العائلة يوم 6 نوفمبر سنة 1962 وكان رحيله مزامنا لرحيل الاحتلال الفرنسي عن الجزائر. لقد انطفأت شمعة القس والمستشرق العالمي لويس ماسينيون في سن التاسعة والسبعين بعد مسيرة حافلة بالإنجازات العلمية والفكرية والسياسية والدينية ليس على مستوى فرنسا بل على مستوى أوروبا والعالم. لم يكن لويس ماسينيون مجرد مستشرق عادي كبقية عشرات المستشرقين الفرنسيين الذين كانت تعج بهم الساحة الفرنسية في عصره سواء داخل فرنسا أو في باقي مستعمراتها العربية في المغرب والمشرق العربيين بل كان مستشرق الدولة الفرنسية الأول. فوفاته تعتبر خسارة لا تعوض بالنسبة للاستشراق العالمي عامة وبالنسبة للاستشراق الفرنسي خاصة بل خسارة لفرنسا بجميع دوائرها السياسية والعسكرية والثقافية والتنصيرية وهي دوائر المصالح الفرنسية المشتركة التي تعامل معها لويس ماسينيون وترك بها بصماته بالإضافة للدوائر الثقافية العلمية والجامعية التي كانت تمثل ميدانه الأصلي وحقله الخصب فهو رجل موهوب متعدد المهام الصعبة التي لا يقدر على أدائها غيره وابلغ وصف قيل عن وفاة ماسينيون هو ما قاله عنه الشاعر الفرنسي لويس ارغون إن موته اختفاء شخص يرمز لفرنسا . *وفاة لويس ماسينيون خسارة لإرسالية الأبيض اعتقد انه لحد كتابة هذه الحلقات لم يكن أحد من الجزائريين يعلم بوقوف المستشرق لويس ماسينيون وراء إرسالية إخوة يسوع الصغار التنصيرية بالأبيض سيدي الشيخ الجزائرية بل كان أحد أوائل مؤسسيها ولم يكن أحد يعلم ما مدى أبعاد وأوجه تعاون ماسينيون الوثيق معها وإن كان هناك عدد قليل ممن لهم علم بذلك فليس بتفاصيل ما تطرقت إليه في هذه الدراسة التي تحدثت عن بعض الأحداث والحقائق لأول مرة. لم تكن شخصية وقدرات ماسينيون العالمية تسمح له بالنزول واللعب في ميدان التنصير مباشرة أمام الجمهور ولكن إمكانياته أهلته للقيام بدور مدرب الفريق الذي يضع خطط وأساليب اللعب ويحدد الأهداف ويختار اللاعبين الأساسيين والبدلاء ويحدد المواقع والمهام. في أكثر من عشرين حلقة تناولت من خلالها بالتفصيل التعريف بلويس ماسينيون وعلاقته بشارل دي فوكو منذ سنة 1904 وعلاقته بإرسالية تلامذته إخوة يسوع الصغار بالأبيض وبرئيس الإرسالية روني فوايوم منذ سنة 1926 عندما طرحت لأول مرة فكرة تأسيس الإرسالية. حاولت من خلال هذه الحلقات التوقف عند الدور الفعال الذي قام به ماسينيون لصالح أول إرسالية لتلامذة شارل دي فوكو وكان هو نفسه يعد احد أولئك التلاميذ والذي راهن على نجاح تجربة الإرسالية المثيرة كما كان يعد رجل الإرسالية الذي اعتمدت عليه في قراراتها ومواقفها المصيرية وبقي ماسينيون وفيّاُ طيلة حياته إلى غاية وفاته لإرساليته ولمدرسته الديفوكية. كما لا ننسى أن ماسينيون هو أول من أُخبِر باختيار مكان تأسيس أول إرسالية لتلامذة شارل دي فوكو بالأبيض إخوة يسوع الصغار قبل غيره وهو من حضر حفل تأسيس الإرسالية بكتدرائية مونمارتر بباريس يوم 8 سبتمبر سنة 1933 وهو رابع أربعة حملوا غطاء القربان يوم التأسيس وهو الذي واكب نشاط المجموعة من بدايته إلى نهايته بداية من أول خطوات الاستعداد والتحضير وهو من أوصى وأشرف على دراسة التصوف بمدينة الأبيض سيدي الشيخ وهو من كانت ترسل له رسائل المسائل العالقة للبحث لها عن حلول وهو من أرسل للأبيض المستشرق المصري جورج شحاتة قنواتي للقيام بمهمة وارسل المستشرق بيار غرو وأنطوان حبيب لتعريب نشاط الإرسالية وهو صاحب قرارات وخطوات تكيف رجال الإرسالية مع السكان وهو من صحّح نص أذان كنيسة الأبيض وهو من تدخل لتهوية الكنيسة وهو من قيَّم ترانيم مريم وصلاة روح القدس المعرَّبة بالإرسالية وهو من قيّم فيلم شارل دي فوكو بعد تصوير بعض مقاطعه بمدينة الأبيض وهو من زار رفقة زوجته إرسالية الأبيض وهو الذي كانت عشرات رسائله لا تكاد تنقطع عن الإرسالية أمرا ونهيا وتوجيها لا نقول كانت هذه الرسائل شهرية بل كانت أحيانا أسبوعية. * الهوية والتوجه انه القس لويس ماسينيون الذي قدّم الكثير من الفكر والجهد والوقت لكنيسة الأبيض وإرساليتها ولم يبخل عليها بكل ما استطاع حتى أصبحت الإرسالية ماسينيونية الهوية والتوجه. صحيح أن ماسينيون لم يُقِمْ بإرسالية الأبيض كما أقام بها زميله المستشرق لويس غاردي أكثر من عشر سنوات باسم مستعار لكنه مع ذلك ما قدّمه لها من جهد وخدمات لم يقدمه لها أحد من بين العشرات الذين تعاقبوا عليها. فالفراغ الذي أحدثه لويس ماسينيون برحيله على إرسالية إخوة يسوع الصغار بالأبيض سيدي الشيخ لا يعوضه أي مستشرق غيره لا بكفاءته وقدراته العلمية العالمية ولا بولائه الروحي وارتباطه العضوي بتلامذة شارل دي فوكو ولا بعلاقته الشخصية الحميمية مع رئيس الإرسالية الأب روني فوايوم . يعتبر ماسينيون العقل المفكر لإرسالية تلامذة شارل دي فوكو التنصيرية بالأبيض التي كانت علاقته بها استثنائية. فمن الأبيض انطلق أول تنظيم لأول تلامذة إخوة يسوع الصغار سنة 1933 بتوجيه ومباركة من ماسينيون ثم بعد ذلك بدأ هذا التنظيم ينتشر شرقا وغربا في الجزائر وإفريقيا وبقية القارات وهو اليوم مع مطلع القرن الواحد والعشرين يوجد في أكثر من اثنين وأربعين دولة في العالم. صحيح أن وفاة لويس ماسينيون كانت سنة 1962م أي بعد ثلاثة أشهر من استقلال الجزائر وتراجع نشاط إرسالية الأبيض إلا أن وفاته كانت صدمة بالنسبة لكل من مرَّ بالإرسالية وكان يعرف تلك العلاقة كرئيس الإرسالية آنذاك ميلاد عيسى والمستشرق لويس غاردي الذي كان مقيما بالإرسالية لكن الصدمة كان وقعها أشد على تلميذه وصديقه وأول رئيس لإرسالية الأبيض سيدي الشيخ الأب روني فوايوم الذي كانت وفاة ماسينيون له خسارة مزدوجة له هو شخصيا ولإرساليته فوصف بحزن علاقة ماسينيون بإرسالية الأبيض قائلا :انه كان يقف وراء كل المساعدات والدعم لبقاء الإرسالية وأن علاقته بالإرسالية كانت علاقة محبة منقطعة النظير. إنه الوجه الآخر للويس ماسينيون الوجه الذي لم أكن أتوقع أن اكتشفه في مدينة الأبيض سيدي الشيخ الصحراوية المدينة التي كان ماسينيون يقود خليتها التنصيرية ويهندس نشاطها ويعرف أحداثها ويعرف عنها ما لم يكن يعرفه عنها سكانها وصدق المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي تحدث عن ماسينيون كأحد مخرجي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة وقال عن ذلك الصراع أن كثيرا من سكان البلاد المستعمرة لم يكونوا يعرفون أن هناك حربا فكرية تدور على أرضهم !.