بقلم: لطفي العبيدي* نظام اقتصاد السوق القائم على المنافسة هو المتسبب في كل الأزمات الحالية. ومع ذلك يتمسك الغرب بهذا النهج الليبرالي الذي أوصل العالم إلى حافة الهاوية. أزمة في النظام الغذائي العالمي وملايين أخرى من البشر مهددة بالجوع والفقر أزمة الطاقة والغاز وحروب على الموارد ومناخ مهدّد ومضطرب. وصراع محموم على كسب التحالفات ليس لإيجاد حلول بل لتعميقها في سباق على المنافسة الاستراتيجية وريادة العالم وتحصيل الهيمنة بين القوى العالمية الكبرى. الانتقال إلى نظام اقتصادي عالمي جديد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وصل إلى نهايته مع التفكك الوشيك للنظام الاقتصادي العالمي القائم على الدولار والذي وفّر الأساس للهيمنة العالمية للولايات المتحدة. وهذا التحول تجسّده حرية حركة القوى الإقليمية التي نبعت من تقييد حركة أمريكا بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية على يد روسياوالصين. *نظام جديد اصطفافات جديدة لكسر نظام القطبية الواحدة ومحاولات للبحث عن البدائل تبحث عنها روسيا التي ترد على زيارة بايدن للشرق الأوسط وعودته بمحصلة صفرية من الأهداف التي جاء لأجلها وهي تأمين إمدادات الطاقة وعزل موسكو وبناء تحالف إقليمي عربي إسرائيلي ضد إيران التي تؤمّن قمة ثلاثية تجمعها مع روسيا وتركيا. وإن كان الملف السوري سيأخذ نصيبه في هذه القمة الثلاثية فإنّ العناوين العريضة لزيارة بوتين هي تعزيز العلاقات الثنائية الروسية الإيرانية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ضمن جملة من التفاهمات الاستراتيجية والشراكات بعيدة المدى. وفي الأثناء كل من واشنطنوموسكو ترى في ما تفعله الأخرى مزيدا من تعكير الأجواء وتعميق الأزمات الإقليمية والدولية. والثابت أنّ أمريكا لم تعد تحظ باستمرارية جيدة لعلاقاتها بدول المنطقة وسياستها الخارجية تتذبذب ولم يعد بإمكانها فرض إملاءاتها على دول الخليج حتى إن قايضت هذه الدول بسحب منظومات الدفاع الجوي المضادة للصواريخ والتخويف بالتهديد الإيراني. محاولات بوتين تغيير النظام العالمي وزعزعة مرتكزاته التي وضعها الغرب الليبرالي تسير بخطى ثابتة وإصرار غير مسبوق. والإدارة الأمريكية لم تعد تجد آذانا صاغية لدى حلفائها المعهودين في الشرق الأوسط خاصة الدول المنتجة للثروة الطاقية. وهي الآن تحاول إعادة بناء الثقة لا غير في إدراك واضح بأن دول الشرق الأوسط بدأت تتحرر من ربقة واشنطن وهي أقرب إلى الحياد خارج الاصطفافات التي تريدها أمريكا ضد روسياوالصين. ويبدو أنّ مصير الولاياتالمتحدة التي لا تقدر على الوفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها في الشرق الأوسط وفي غيره من بلدان العالم سيكون مشابها لمصير بريطانيا سابقا التي قاتلت على الهيمنة وأشعلت حربين عالميتين لكنها فشلت ولم تتمكن من الحفاظ على امبراطوريتها وموقعها المركزي في العالم بسبب تقادم نظامها الاقتصادي الاستعماري. *عقيدة أمريكا إذن عقيدة كارتر لم تعد تفيد أمريكا في شيء رغم انتشار القواعد العسكرية والأساطيل وصلاحية مؤسسات القطب الواحد وعصر العولمة الأمريكية قد تلاشت ومع ذلك يبدو أنّ الهيمنة الأمريكية ستستمِر في اثبات أنّها لا تزال موجودة في نوع من الإيهام وخداع النفس بواقع لا تتوفر ملامحه. وبالتأكيد لن ترفع راية الاستسلام بسهولة رغم تقييد الصين لها في مجالات التجارة والاستثمار على مستوى شاسع ولأنّها ما زالت تحتفظ بالدولار كعملة للتداول والتعامل التجاري على مستوى العالم وتمنع التحالف أو على الأقل التّقارب بين أوروبا وآسيا الذي بإمكانه أن يجذب إليه باقي دول آسيا وافريقيا. فالولاياتالمتحدة احتفلت بعد سقوط جدار برلين بانهيار عدوها السوفييتي وتدشين فترة العصر الأمريكي ونجحت في استغلال الاتحاد الأوروبي عبر دمجه بالمنظومة الدفاعية الأمريكية وعدم تمكينه بسبب العلاقات المميزة بينها وبين دول أوروبا الشرقية من تحقيق استقلاله الأمني. وهي إلى الآن تمنع قيام دول الاتحاد بتحقيق استقلال استراتيجي دفاعي وتدفعهم إلى دفع ثمن باهظ بسبب نظام العقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا. وبحلول الشتاء سيدرك الأوروبيون مدى غبائهم في الاندفاع نحو حرب خاسرة أفقدتهم تدفق الغاز وتأمين احتياجاتهم من الطاقة وأنتجت حالة تضخم وغلاء أسعار غير مسبوقين. القوى الكبرى المتحكّمة في الساحة الدولية وفي الأسواق المالية العالمية تنشغل بأزمة الموارد والصراع على الطاقة دون أدنى اهتمام بما يهدد بقاء الإنسان ذاته من مخاطر تقلبات المناخ وأشكال الاحتباس وتدهور المنظومة البيئية. ونظام المجتمع الدولي تجاهلت حواضره الاقتصادية المعولمة الأطراف وانتصرت للمركز والقوى الكبرى التي تتضارب مصالحها في هذا النظام العالمي الذي تقف الأممالمتحدة في وسطه يبدو أنها لا تستمرّ في السعي لبناء استراتيجيات تواصل رغم وجود صراع حول فكرة الريادة وواقعية المواجهة الجيوسياسية المتعلّقة بالتّحجيم من ناحية والضغط العسكري والاقتصادي من ناحية أخرى. ومثل هذا الأمر أصبح يشكل ديناميكية تنافسية بين الدول والعامل المساعد للنزعة العسكرية. وهو يؤدي بشكل مستمر إلى المواجهة وتنازع الأدوار والتموقع الجيوستراتيجي ومطلب الهيمنة. وفي الأثناء تقارير عديدة تشير إلى أنّ أسعار المواد الغذائية آخذة في الارتفاع جنبا إلى جنب مع أبرز التحديات الاقتصادية العالمية الأخرى ونتيجة لها. فالتضخم يتزايد والجائحة لا تزال تعرقل سلاسل الإمدادات العالمية أما تغيُر المناخ فيهدد الإنتاج على مستوى كثير من المناطق الزراعية في العالم بمزيد من الجفاف والفيضانات والحرارة وحرائق الغابات. وتحت تأثير العديد من المُتغيرات منها العنف المُنظم والصراعات والصدمات الاقتصادية بما في ذلك الآثار الثانوية الناتجة عن جائحة كورونا وتغير المناخ. يتفاقم انعدام الأمن الغذائي في العديد من الدول التي لا تتخلى عن نماذج تنموية فاشلة أوصلت إلى الوضع الحالي ولا أحد يلتفت إلى ما اقترحته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الفاو من سياسات وإجراءات يمكن للحكومات تبنيها لمجابهة الأزمة الغذائية في ظل انعكاسات الحرب الأوكرانية الروسية وتراجع الأمن الغذائي العالمي من ذلك دعم الأنشطة اللوجستية اللازمة للإنتاج الزراعي وحماية أنشطة الإنتاج والتسويق لتلبية الطلب المحلي وتنويع مُوردي الأغذية والمحاصيل الزراعية للسوق المحلي والاستغلال الأمثل لمخزون السلع الغذائية. وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الهشة والأكثر تأثراً بالأزمة الغذائية. من الواضح أنّ أوروبا لم تكن على الإطلاق مستعدة لعواقب الحرب على مجالي الطاقة والاقتصاد. وحرب روسيا ستؤدي إلى وجود أمريكي أكبر في أوروبا وتحكم مضاعف بها وباستقلالية قراراتها ووجود أقوى لحلف شمال الأطلسي على الجانب الشرقي ضمن سياسة كسر العظام. ورغم أنّ توثيق العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والناتو يبدو مهتزا فإنّ الثابت أنّ هذا المسار من المواجهة والنفق المظلم الذي دخلته أوروبا سيؤدي إلى استنزاف مواردها وقدراتها لمعالجة العواقب الناتجة عن الأزمة. ومن الطبيعي أن تتكرر زيارة بايدن وغيره إلى المنطقة لأنّ صدى الصراع والمنافسة بهذا الحجم سيتردَّد في المنطقة باعتبارها إحدى ساحات المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى. والحقيقة التي لا جدال فيها أنّ لا حلول في المدى المنظور لأزمة الغذاء العالمية أو مشكلة المناخ وهستيريا السياسة تتغلب في الوقت الحالي على عقلانية القرار والرؤية الإنسانية المتزنة لحاضر ومستقبل البشرية.