عبد الله راقدي منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية الحامل لشعار "الولاياتالمتحدةالأمريكية أولا"- كتصور جديد وأولوية لتثبيت وتعزيز مكانة الولاياتالمتحدة في المشهد الإستراتيجي الدولي، وما ترتب على ذلك من تصريحات وسياسات-، جلب الكثير من الردود الرافضة لطروحاته على المستويين الداخلي والخارجي. داخليا واجه معارضة شرسة من قبل القوى والمؤسسات السياسة العريقة أو ما يسمى بالدولة العميقة، وعلى المستوى الخارجي جاءه الرفض من قوى تيار العولمة كونه دعا إلى مراجعة دور وعلاقة الولاياتالمتحدة بمختلف الهيئات والمؤسسات الدولية، فهل إقرار عقوبات مجلس الشيوخ والنواب الأمريكي ضد روسياوإيرانوكوريا الشمالية استهدافا لحلف يشكل تحديا حقيقيا للنظام الليبرالي الغربي؟، أم أن هذه العقوبات بمثابة أداة إكراه وإرغام ضد إدارة ترامب لتوريطه في صراع مع هذا المحور خاصة روسيا، وهذا من أجل ضمان استمرارية الإستراتيجية الأمريكية لعولمة العالم منذ نهاية الحرب الباردة؟. يجدر التعرض في البداية إلى طبيعة العقوبات المفروضة على الشركات الروسية ذات الصلة بمسائل نقل الأسلحة والتكنولوجيا التي تعارضها الولاياتالمتحدة منذ التسعينيات، كما فرضت عقوبات على الشخصيات الروسية والمصارف وبعض الهيئات والمؤسسات التي تتعامل مع إيرانوكوريا الشمالية وسوريا وممثلي الدول الأخرى التي تنتهك سياساتها الخارجية أو المحلية المعايير الدولية أو تفضيلات الولاياتالمتحدة. وتشمل هذه العقوبات حظرا على الأفراد والكيانات الروسية المشاركة في ممارسة الأعمال التجارية في الولاياتالمتحدة، فالمشرعون الأميركيون سعوا عن طريق مشروع القانون الجديد لمعاقبة روسيا لضمها شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ولتجازو هذه العقوبات اشترط رايكس تليرسون، وزير خارجية الولاياتالمتحدة، من روسيا أن تلتزم باتفاقية "مينسك" التي وقعها ممثلون عن روسيا الاتحادية، وأوكرانيا، وجمهوريتي "دونتسك"و "لوغانسك" لإنهاء الحرب بمنطقة دونباس في أوكرانيا في 5 سبتمبر 2014. كما يفرض المشروع عقوبات على الحرس الثوري الإيراني بتهمة دعم الإرهاب (حزب الله، حركات المقاومة الفلسطينية حماس والجهاد الإسلامي، وحركة أنصار الله في اليمن)، وعلى كوريا الشمالية بسبب تجاربها النووية والباليستية، حيث تشكل بذلك تهديد لحلفائها في المنطقة ككوريا الجنوبية واليابان، لكن من زاوية أخرى أكثر عمقا ماهي الأهداف غير المعلنة للكونغرس الأمريكي من هذه العقوبات خاصة التي تستهدف روسيا تحديدا؟.
عقوبات الكونغرس بين فك الارتباط وحماية الحلفاء وتعكس العقوبات في جانب منها صراع داخلي محتدم بين إدارة ترامب والكونغرس بغرفتيه والمؤسسات الأخرى أو ما يسمى بالدولة العميقة، ويبدو أنها جاءت في سياق السعي لممارسة مزيد من الضغط والحصار على إدارته، رغم أن انتخابه تم بطريقة ديمقراطية وخطابه الانتخابي لقي قبولا في الأوساط الشعبية الأمريكية، وهؤلاء توافقوا حول مسألة الخطر الذي تشكله النخبة الحاكمة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على أمن واستقرار ومكانة الولاياتالمتحدة، على اعتبار أنها تبنت مقاربات العولمة التي تحاذي الأمركة لإملاء وإدارة جدول الأعمال الكوني، ما انعكس بشكل سلبي مزمن على قدرات الولاياتالمتحدة من أجل استمرارية هيمنتها العالمية وإضعافها سياسيا واقتصاديا وأمنيا وتورطها في أزمات ونزاعات دولية فاشلة في منطقة الشرق الأوسط (الصومال، أفغانستان والعراق)، كما كان لاتفاقيات تحرير التجارة تأثير سلبي على الاقتصاد الأمريكي وبالطبقة الوسطى من المجتمع ما يشير إلى الصراع بين المؤسسات السياسية وإدارة ترامب، أنه أثناء المصادقة على العقوبات، غرد ترامب في التوتير قائلا، إن القرار "معيب بدرجة كبيرة"، وطلب من الكونغرس تفاد عرقلة المساعي الأمريكية لحل النزاع في أوكرانيا الذي أساسه التحاور والتفاوض مع روسيا بدل المواجهة، وهكذا يبدو أن العقوبات أرادت من خلالها المؤسسات السياسية في الولاياتالمتحدة إضعاف موقع ترامب التساومي عبر توريطه في صراع مع محور روسياإيرانكوريا الشمالية وحتى الصين، ومن ثمة إبعاد أي احتمال لترتيب تسويات للصراعين السوري والأوكراني، فتوريطه في نزاعات قد يكون مكلفا له يزيد من احتمالات تراجع مساندة الرأي العام الأمريكي له تمهيدا لعزله، أو محاصرته سياسيا بعدد من القضايا أبرزها ربط نجاحه الانتخابي بمساعدة روسيا له. أما بالنسبة لروسيا، فإن تكلفة العقوبات المفروضة عليها قليلة التأثير نسبيا من الناحية الاقتصادية، ويرجع ذلك جزئيا إلى محدودية العلاقات الاقتصادية بين البلدين، ففي عام 2015 لم تتجاوز التجارة الأمريكية مع روسيا سقف 23 مليار دولار، متراجعة عن 34 مليار دولار في عام 2014، وأقل بكثير من المرتبة الخامسة عشرة التي تحتلها سويسرا التي بلغت تجارتها الإجمالية مع الولاياتالمتحدة في 2015 حوالي 53.5 مليار دولار، هذا من جهة ومن جهة ثانية توجه الاقتصاد الروسي شرقا بتعزيز الشراكة مع القوى الاقتصادية الآسيوية الصاعدة كالصين والهند وبروز بوادر الانفراج في العلاقات الروسية الأوروبية التي تأزمت بسبب الأزمة الأوكرانية، خصوصا أن الدول الأوروبية في غالبيتها تسعى للخروج من المظلة الأمريكية على الأقل سياسيا باستثناء بريطانيا ذات التوجه الأطلسي خاصة مع بروز مشروع ′′شمال ستريم 2 " المتعلق ببناء خط أنابيب الغاز بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق، والمطور من قبل العملاق الروسي "غاز بروم" وخمسة شركات أوروبية، مع ذلك فإنه وفي قلب العاصفة، تبرز مسألة تقليص تعاملها مع البنوك الأمريكية أو حرمانها من الاستفادة من السوق الأمريكية. لسياستها الداعمة لحركات المقاومة أضحت خطرا حقيقيا بالنسبة لأمن إسرائيل الحليف الإستراتيجي الأول لأمريكا ولمصالح هذه الأخيرة في الشرق الأوسط، فضلا على اتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول عبر نشر فكر الثورة ودعم الأقليات الشيعية، لذلك تعمل الولاياتالمتحدة على محاصرة وعزل إيران سياسيا واقتصاديا والتهديد بالتراجع عن الاتفاق النووي وباستخدام القوة إن لزم الأمر بهدف دفعها إلى التخلي عن مشاريع وقف تطوير الأنظمة الصاروخية والتخلي عن حركات المقاومة، وهو ما ينسحب كذلك على كوريا الشمالية التي تستمر في تطوير ترسانتها من الأسلحة النووية والأنظمة الصاروخية وما يشكله ذلك من تهديد لكل من اليابان وكوريا الجنوبية الحلفين التقليديين للولايات المتحدة في الشرق الأقصى.
إلى أي مدى يبقى المشروع الغربي الليبرالي خيار من لا بديل له؟ يعد النظام الليبرالي أي كانت تجلياته أساس الهيمنة الغربية بزعامة الولاياتالمتحدة لفترة طويلة. ورغم وجود مساعي تصورات لأنظمة عالمية متمايزة، كمشاريع الصين الوارثة لتعاليم كونفشييوس وكوتيليا، والإسلام السياسي الثوري (الخطر الأخضر)، أو روسيا وريثة التاريخ القيصري، فقد استمر الغرب المنتصر في صراع الحرب الباردة في توسيع نظامه إلى أن أسبغه بالعالمية عبر تسويق العولمة ثم الحوكمة العالمية، عبر آليات اختراق حدود الدول وإثارة مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية والمواطنة العالمية والولاية القضائية العالمية. وعلى نحو متصل، سعى مهندسو هذا النظام الموسع إلى إضعاف وتسفيه سيادة الدولة وتعويضها بقواعد عالمية مشتركة يتعين على الحكومات الوطنية الالتزام بها. ولمواجهة هذا المصير الذي تنتهجه مخابر البحث ودوائر صنع القرار في الغرب تسعى الدول غير الغربية في الشرق لكسر هذا الطرح الغربي استباقي من خلال السعي لتأسيس نظام دولي جديد متعدد الأقطاب يحمي مصالح الدول وسيادتها، ففي روسيا يسعى الرئيس "فلاديمير بوتين" إلى إعادة بعث أمجاد الاتحاد السوفييتي وروسيا القيصرية عبر إنجاز إقلاع اقتصادي قوامه التحكم في توظيف موارد الطاقة (البترول والغاز أساسا) وتعزيز القوة والمكانة العسكرية لروسيا، وفي إطار إعادة بعث دولة تسلطية محترمة، يسعى لتطوير علاقاته مع القوى الأخرى بغية أن يعتد به كضامن للنظام الدولي مع الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط عبر تثبيت وجودها من البوابة السورية وفي آسيا الوسطى والقوقاز، أو مع الصين في إطار منظمة شنغهاي، والمشاركة في مجموعة 8. أما التحدي الإسلامي فقد أثبت محدوديته وقصوره في تقديم بديل عن النظام الليبرالي، فلا إيران ولا تركيا أو السعودية نجحت في بلورة منظومات حكم قوامها احترام حقوق الإنسان الأساسية ومتجاوزة القصور الذي ميز النظام الليبرالي، ومن شأن ذلك، دفعت الشعوب ليست فقط المنتمية لفضائها الحضاري وإنما مختلف مناطق العالم إلى المطالبة بتبني هذا النظام، غير أن ما حصل عكس ذلك، أنتج هذا الفضاء العجز والفشل والتطرف والإرهاب والتسلط، ففي إيران رغم بعض النجاحات المحققة لا يزال صوت المؤسسة الدينية الأعلى والأقوى، وهي المتهمة من قبل جيرانها قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل بتهديد الاستقرار والأمن في المنطقة، وفي السعودية النظام المغلق المستند لفكر سلفي متصلب متهمة بدعم الإرهاب في أفغانستان واليمن وسوريا وليبيا، وتركيا الدولة التي حققت تطورا اقتصاديا ومن ثم نقلة نوعية في أقل من عقدين دخلت بموجبه إلى نادي أكبر عشرين اقتصاد عالمي، واعتبرت بذلك أنجح نظام حكم إسلامي ليبيرالي ليس فقط بالنسبة للشعوب في المنطقة العربية والإسلامية وإنما من قبل قادة وصناع السياسية في العالم، غير أن هذه التجربة القصيرة بدأت تشوبها بعض الشكوك، حيث تدفع مؤشرات تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي إلى الاعتقاد بأن النظام يتجه نحو تكريس نظام حكم تسلطي، لاسيما في ظل الاعتقالات التي طالت الآلاف من المواطنين الأتراك العسكريين والمدنيين بعد الانقلاب الفاشل، ومحاصرة كبريات الصحف وممارسة القمع ضدها، علاوة على تورطها في النزاعين السوري والليبي بدعمها للإرهاب على غرار الدور الباكستاني في ثمانينيات القرن العشرين خلال الحرب الأفغانية، وأخيرا انحيازها لقطر ضد الدول الأربعة المحاصرة لهذه الأخيرة. وأقصى ما تسعى تركيا إليه ما أفادت به صحيفة تركية بأن أردوغان ينوي إنشاء مؤسسة من أجل مخاطبة العالم الإسلامي من اسطنبول. مقابل الفشل الرسمي للأنظمة السياسية للدول الإسلامية في تقديم البديل للنظام الليبرالي، وباسم دعوات التغيير والإصلاح تمادى الجهاديون الإسلاميون الذين يتشكلون من ميليشيات إرهابية متطرفة في تمزيق المجتمعات الوطنية وتفكيك الدول بحثا عن نشر عقائدهم الدينية، وصارت في عدد قليل من البلدان في الشرق الأوسط أقوى من القوات المسلحة التابعة للحكومة، كما يذهب إلى ذلك هنري كيسنجر، خاصة أن هذه الجماعات الإرهابية يتم توظيفها من قبل دول لضرب استقرار دول أخرى، لذلك تقوم بتوفير الدعم المادي والإعلامي واللوجستي لها، ولعل التجريبتين السورية والليبية أحسن مثال. بالنسبة للصين المبلورة لنظام حكم تسلطي والقوى الصاعدة الأخرى لا ترغب في منافسة أو رفض القواعد الأساسية ومبادئ النظام الدولي الليبرالي، إنها ترغب في الحصول على المزيد من السلطة والزعامة، كما يذهب إلى ذلك جون آيكنبيري. وبالنسبة للصين وكما هو الشأن بالنسبة للبلدان غير الغربية المؤثرة على غرار البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، أخذت تنمو وتتزايد باطراد، وفي نفس الوقت أصبحت أكثر اتساقا مع المعايير الليبرالية واندماجا في النظام العالمي القائم. وأخلص إلى القول، أن الصراع المحتدم بين المؤسسات السياسية العريقة في الولاياتالمتحدة وإدارة ترامب يتعلق بمسألة عدم القبول بمنظور التفوق الأمريكي كما تعتقد إدارة ترامب، وإنما ضرورة السير قدما نحو مسعى تكريس القيادة الأمريكية للعالم الذي دشنته أمريكا منذ نهاية الحرب الباردة. وعليه، فإن العقوبات لا تعدو أن تكون الشجرة التي تخفي الغابة كما يقال، أي توريط ترامب في صراعات هو مستنكف عليها في هذه المرحلة على الأقل، وهي في كنهها- العقوبات- تكريس للاستعلاء الأمريكي وتأكيد للالتزامات الدولة العميقة للولايات المتحدةالأمريكية حيال حلفائها التقليدين. وتبقى القوى الأخرى الشرقية أساسا عاجزة عن بلورة نظام بديل للنظام الليبرالي الغربي. أستاذ العلاقات الدولية جامعة باتنة .1 E-mail: [email protected]