ربما يبدو هذا السؤال غريبًا بعض الشيء، لكننا بحاجة لأن نتأمّله قليلاً ونوجّهه لأنفسنا بكل جدّية.. يُروى عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وهذا الحديث يحمل معاني عميقة حريّ بنا أن نلتفت إليها.. هذا الحديث والآية التي تقول: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، يدلاّن على أن الهدف من الفرائض والعبادات النسكية هو أن تهذّب الروح، وتزكّي النفس، وتبني الأخلاق الصالحة لدى الإنسان، وما لم تترك هذه العبادات ذلك الأثر لدى الإنسان فإنّ عبادته تصبح جوفاء خالية من المعنى؛ إذ إنها لم تحقّق المقصد الذي لأجله فُرضت هذه العبادة. هذه النقطة المهمة توضح لنا بشكل جليّ سبب التناقض الذي نراه لدى كثير من المسلمين، بين الممارسات السلوكيّة التي نراها على أرض الواقع، وبين الأخلاق الإسلامية الراقية التي جاء بها الدين، والتي فُرضت العبادات لأجل بنائها وتقويتها. وعندما نتأمل قليلاً في الحديث الآخر الذي رُوي فيه عن النبي الكريم -عليه السلام- أنه قال: "رُبّ صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش"، نجد أنه يؤكد وبشكل واضح أن الجوع والعطش ليس أمرًا مقصودًا لذاته، فالله -جلّ جلاله- ليس بحاجة لأن نمتنع عن الطعام والشراب! الجوع يجب أن يهذّب روح الشخص، لا أن يجعل أخلاقه سيئة ومزاجه متعكرًا، كما نرى ذلك منتشرًا وبكل أسف. الجوع والصيام مثل المطر، قد يهطل على أرض صالحة فينبت ويثمر، وقد يهطل على أخرى فاسدة فلا ينبت ولا يحيي مواتًا! هذا هو حال الناس مع الصيام.. منهم من يهذّب روحه ويزكّي أخلاقه ويزيده قربًا من ربه، ومنهم من لا يجد من صيامه سوى الجوع والعطش! حريٌّ بنا جميعًا أن نراجع أنفسنا بعد نهاية هذا الشهر المبارك، ونطرح عليها عددًا من الأسئلة لنعرف ما إذا كنّا قد صمنا حقًّا -وكما ينبغي- في رمضان، أو ما إذا كان حظّنا منه الجوع والعطش! الصومال القريبة -مثلاً- كانت ولا تزال تعاني من مجاعة رهيبة اشتدت وطأتها خلال هذا الشهر الكريم، فكيف كان تعاطي كلّ منا مع هذه الكارثة الإنسانية التي نشهدها.. هل كنت أخي الكريم/أختي الكريمة تستشعر حال هؤلاء الفقراء عندما تصوم، فتشعر بجوعهم عندما تجوع وبعطشهم عندما تعطش؟! هل كان هذا دافعًا لك كي تبذل ما تستطيع من أجل مساعدتهم؟ هل ذهبت إلى الجمعيات التي تستقبل التبرّعات لهؤلاء الذين يهدّد الجوعُ حياتَهم في كل لحظة؟! هذه أسئلة بسيطة من الضروري أن يوجّهها كلٌّ منّا لنفسه! لو لم نقم بهذا فإننا نعاني من خلل حقيقيّ في تطبيقنا لعبادة الصيام، وهذا مجرّد مثال يوضح الفكرة الجوهرية.. وإلاّ فهناك الكثير من الأسئلة الأخرى التي تستحقّ أن تُطرح، منها على سبيل المثال: هل كان صيامك سببًا لقربك من ربك، وبالتالي لإحسانك إلى خلقه؟ هل كان صيامك سببًا لأن تراجع قلبك فتطهّره من الغلّ والحسد والضغينة والكراهية؟ هل كان صيامك سببًا لأن ترفع يديك إلى السماء وتقول: يا رب، إني قد سامحت كل من أخطأ في حقي أو من ظلمني وأساء إليّ؟! هل كان صيامك سببًا لأن يكسر غرور نفسك وتعاليها، ويجعلك أكثر قربًا للفقراء والضعفاء والمساكين؟ كل هذه الأسئلة وغيرها.. تعين كلاًّ منّا على الاقتراب من الإجابة عن السؤال الحقيقي والمهم: هل صمت في رمضان؟! لأن الصيام ليس مجرد جوع وعطش، وإنما ما يحدثه هذا الجوع والعطش من أثر على نفسك وروحك وأخلاقك.. وكلٌّ منا أدرى بنفسه.. (بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). تقبّل الله منّا ومنكم صالح العمل، وأعاننا وإياكم على فعل الخير وتجنُّب الزلل..