عادت دراما البيئة الشامية في الموسم الماضي إلى الوثائق التاريخية، في محاولة من بعض صناعها لاستعادة مصداقية هذه المسلسلات، وذلك بعد سنوات من الشطط في تصوير البيئة الشامية كحالة فلكلورية تفترق عن الواقع وتقترب من الفانتازيا المتخيلة. وهو ما كان يثير انتقادات كثيرة حولها، أهمها تشويه تاريخ المدينة القديمة، من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. حيث كان الطلب الكبير على هذه الأعمال من المحطات الفضائية يدفع بعض الكتاب والمخرجين إلى التمادي في التخيل على حساب الحقيقة والمشاهد!. حتى أن بعض الأعمال بلغ بها الاستهتار حد أنها قدمت أحداثاً لم تحدث واختلقت علاقات وقيماً اجتماعية لم تكن موجودة، بالإضافة إلى شخصيات تضطلع بمهام وهمية!. هذا ما يقوله عدد من أبرز نجوم الدراما السورية والحارة الشامية تحديداً، ما حدا بهم إلى الانصراف عن هذا الشكل الدرامي الفانتازي والعودة إلى الحارة الشامية الحقيقية، فيما يشبه انقلاباً أبيض على النهج الذي سارت عليه هذه الأعمال خلال السنوات القليلة الماضية. هذا التحول الجوهري في توجه دراما البيئة الشامية نحو رؤية أكثر واقعية قاده عدد من أبناء الحارة الشامية العتيقة، فكتب عباس النوري بالتعاون مع زوجته عنود الخالد مسلسل “طالع الفضة” عن قصة حقيقية جرت في العقد الثاني من القرن الماضي في حي دمشقي مازال قائماً حتى اليوم، وأخرجه الفنان سيف الدين سبيعي ابن البيئة الشامية أيضاً. منطقة رمادية بينما كتب الفنان وفيق الزعيم مسلسل “الزعيم”، وربط الأحداث بزمن محدد هو العهد الفيصلي، بعد خروج العثمانيين من سوريا وقبل دخول الاحتلال الفرنسي بين عامي 1918 و1920، وأخرجه الأخوان بسام ومؤمن الملا. أما المخرج علاء الدين كوكش في مسلسله “رجال العز” سيناريو وحوار طلال مارديني، فراوح في منطقة رمادية، لم يتخل فيها عن الوثيقة التاريخية، ولم يلتزم بها في الوقت نفسه، فهو حدد الزمان، وهو فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، ثم ترك الحكاية تمضي على عواهنها متجنباً كل ما يشير إلى حدث سياسي أو حراك اجتماعي. أما الجزء الثاني من مسلسل “الدبور”، فقد واصل وحده الأسلوب الذي بدأ به العام الماضي، وهو من تأليف مروان قاووق “صاحب فكرة باب الحارة” وإخراج تامر إسحاق. نجاح وفشل يرجع النقاد أسباب الجماهيرية الكبيرة التي حققتها دراما البيئة الشامية على الشاشات السورية والعربية إلى عدة أسباب، أهمها أن هذه الأعمال تركز على المثل العليا والقيم العربية الأصيلة، كالشجاعة والشرف والشهامة والكرم والإيثار والنخوة وغيرها، وهو ما يشحن المشاهد عاطفياً ويجعله يتفاعل مع القصة وأبطالها بكل جوارحه، ولاسيما في مواجهة الظلم والغدر والخيانة والسلوكيات السلبية الأخرى. بالإضافة إلى إبراز علاقات حسن الجوار والتضامن بين أبناء الحارة الواحدة أمام المحن والأزمات التي قد يتعرض لها أحدهم أو جميعهم. مفاتيح النجاح هذه لم تكتشفها دراما البيئة الشامية التي قدمت خلال العقد الماضي، وإنما جرى اجتزاؤها واقتباسها من أعمال تناولت البيئة الشامية وحققت النجاح خلال تسعينيات القرن الماضي مثل مسلسل “أيام شامية” الذي كتبه القاص أكرم شريم. لكن هذا الاجتزاء في فهم أسباب النجاح أدخل دراما البيئة الشامية في دائرة مغلقة، وجعلها تدور فيها طوال سنوات، فمعظم الأعمال استفادت من إبراز القيم الأخلاقية، ولعبت على الصراع بين الخير والشر، وأهملت التاريخ والحقائق، مما جعلها عرضة لانتقادات لاذعة لم تنجح معها كل محاولات الترقيع، كما حدث في الأجزاء الأخيرة من مسلسل “باب الحارة”. وتبين أن المشكلة الحقيقة هي في الكتّاب وشركات الإنتاج، التي تواطأت معهم، في استسهالهم تقديم أعمال لا تلزمهم بالبحث والتقصي والرجوع إلى المصادر التاريخية، وبالتالي ظهرت أعمال هجينة بأسلوب كاريكاتوري ساذج تقدم شكل الحارة الشامية ولا تعكس واقعها. وجنباً إلى جنب مع هذه الأعمال قدمت الدراما السورية أعمالاً أخرى على غاية من الأهمية، بعضها لم يأخذ حقه من العرض الجماهيري، كمسلسل “الحصرم الشامي” الذي كتبه فؤاد حميرة وأخرجه سيف الدين سبيعي وعرض على قناة أوربت المشفرة. حيث تناول هذا العمل وللمرة الأولى فترة غائمة من ذاكرة المدينة القديمة وهي الثلث الأول من القرن التاسع عشر عند دخول الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا إلى دمشق ومناهضته للسلطنة العثمانية. اتجاه تجاري ويرى المخرج والممثل سيف الدين سبيعي أن كثيراً من أعمال البيئة الشامية ذهبت باتجاه تجاري في السنوات الماضية، ولم يكن لصناعها همّ سوى الربح والاستفادة من الطلب الكبير عليها من المحطات الفضائية، فعانت من الاستسهال في الكتابة والتوثيق للمرحلة التي تشير إليها، ولو أن بعضها اكتفى بحكاياته دون الإشارة إلى زمن محدد، لكان الأمر أقل ضرراً، إلا أن بعض هذه الكتابات تجرأت على ذكر الزمن دون أن تستند إلى الحقائق التي ترتبط به. ويُعد سبيعي من أبرز الأصوات التي ارتفعت في الوسط الفني رافضة معظم ما يقدم تحت عنوان “الحارة الشامية”، لأنها تقدم فانتازيا تاريخية مسطحة تشوه تاريخ الشام، رغم غنى هذا التاريخ بالأحداث والقصص التي يمكن الاستناد إليها في تقديم أعمال مهمة جداً، وهي المدينة التي تمتد جذورها في أعماق التاريخ وتعتبر أقدم مدينة مازالت مأهولة في العالم. سبيعي واصل هذا العام نهجه السابق في التركيز على تاريخ دمشق الحقيقي، وحقق هذا العام نقلة مهمة في مسلسل “طالع الفضة” الذي أبرز أموراً كثيرة غيبتها الأعمال الأخرى، وأهمها التسامح الديني في المجتمع الشامي، والمكانة التي تتمتع بها المرأة، وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأهالي، والتي تختلف تماماً عما حاولت أعمال أخرى تكريسه، فالحارة الشامية لم تكن منعزلة عن محيطها مثل “الكانتونات”، بل إن دمشق كانت على مدى التاريخ ونظراً لموقعها الجغرافي المميز محطة مهمة للقوافل التجارية على طريق الحرير، وهي مشهورة بنشاطها التجاري وتجارها. صحوة واعتراف المخرجان بسام ومؤمن الملا اللذان كان لهما دور كبير في الترويج للفانتازيا التاريخية الشامية في السنوات الماضية، اتجها هذا العام للواقعية أكثر من السابق، ويبدو أن جهود الفنان وفيق الزعيم أثمرت في هذا الاتجاه، وهو الذي لم يكن راضياً عن الصورة الرائجة للحارة الشامية تلفزيونياً، ولاسيما أنه ابن هذه البيئة، فقدم في مسلسله “الزعيم” رؤية راعى فيها الحقائق التاريخية وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة بعد خروج العثمانيين، ما جعله أقرب إلى روح الحارة الشامية الحقيقية. ويقول الزعيم إنه بذل جهداً كبيراً في التوثيق لكل تفاصيل العمل، وخصوصاً على الصعيد الاجتماعي، وتكوين الشخصيات الحياتية والثقافية. معترفاً بأن معظم ما قدم من أعمال تناولت الحارة الشامية في الفترة الماضية كانت تحمل الصبغة التجارية.