عاد إلى بغداد الفنان غازي الكناني، (74 عامًا)، بعد اغتراب لأكثر من 12 عامًا، عاد وهو يحمل على عاتق سنواته كثيرًا من تراجيديا الأيام التي دفعته بعيدًا عن وطنه وناسه، عاد من أستراليا وفي داخله حنين كبير كان يلهج به طوال السنوات الماضية، على الرغم من معاناته مع المرض، إلا أنه كان يتماسك ويرنو إلى وجه العراق فيسترد عافيته، كما كان يؤكد على الدوام، هو الآن في بغداد محتفلاً بنفسه التي راحت تشهق لمشاهدة بغداد ومعاينة كل ما فيها، فترك جسده ينطلق للتعرف إلى المدينة من جديد· ما الذي قمت به فور وصولك إلى بغداد؟ تجولت في الشوارع، وذهبت وقبلت (فلانتي) تحت نصب الخالد جواد سليم (نصب الحرية)، وفلانتي معروفة لدى الأصدقاء في فايسبوك ومتابعي كتاباتي، حروفي قاسية، ولكن هناك من يستوعب ما أكتب، وفلانتي هي حبيبتي بغداد، اليوم تمنيت أن أغفو بين جدائلها دجلة والفرات حتى لا أسمع دوي الانفجارات، ولا أرى المقنعين وضباع المزابل وهم ينهشون صدر هذا الشعب الرائع· أية تصورات كانت في نفسك وأنت على الطريق إلى الوطن؟ سأحكي لك شيئًا يسبق الإجابة عن هذا السؤال·· لما قدموني في أستراليا للتجنيس، ليعطوني الجنسية الأسترالية، كان لا بد من القسم بأن أخدم أستراليا، وأن أكون وفيًا لها، وأن أكون واحدًا من الشعب الأسترالي، وهكذا، كانوا يجعلونني أقسم ودموعي تجري وتجري، أقسمت بصمت، فيما تساءل الشخص الذي سيمنحني الجنسية لماذا أبكي؟، وكان هناك العديد من الحضور، ومنهم صحافيون وإعلاميون، لم أجبه، وكانت دموعي أبلغ جواب، لكن في اليوم التالي كتب أحد الصحافيين قائلاً: (إن هذا الرجل لا يحب أستراليا، يجب إرجاعه إلى وطنه لأنه يبكي على وطنه)، وأعتقد أن هذا يكفي· ما الذي كان يرتسم في خيالك وأنت في الطائرة؟ كان هناك توجس من كل شيء، كنت خائفًا وغير خائف، قلقًا وغير قلق، أريد أن أرى الحقيقة، أنظر إلى النخيل فأحسه يابسًا، والأنهار جافة والطيور لا وجود لها في السماء، هناك غربان وأصوات بوم وصخب، والتبست على الأشياء، وهذا كله امتزج مع صوت الطائرة التي حطت في أربيل، وأنا غير مطمئن، وأشعر بالحزن في داخلي، نزلنا في مطار إربيل، كان هناك هدوء، ولكن بعدما دخلت حدود مدينة بغداد، وسرت في الشوارع حتى أحسست بعدم وجود التزام، الناس في السيارات تسير على هواها، كأنها تمشي من دون هدف، وحتى الذي تحييه لا تستغرب رده، ناسك المقربون يراك أحدهم أول يوم، ثم لا يسأل عنك، هذه كلها شكلت لديّ قضية كبيرة، وهي أن الناس تغيرت، ولا أعرف لماذا، والمفروض أن يتغيروا نحو الأفضل لبناء العراق الرائع· * هل هذا جعلك تشعر بالتماسك أم الخذلان؟ - أشعرني بالخذلان، وإن كنت في حقيقتي متمسكًا بالعراق وأهله، وكما قلت لك في حكاية منحي للجنسية الأسترالية· * أين بتّ ليلتك الأولى وكيف كانت؟ - بتّ ليلتي الأولى عند ابنتي، لم أنم جيدًا، عشت ليلتي مؤرقًًا وقلقًا، أقلقني أنني عندما هاجرت عراقي الحبيب··· القلق نفسه الذي جعلني أهاجر وجدته· * ماذا لو عرضوا عليك العمل هل تبقى أم تسافر؟ - عرضوا عليّ التمثيل في مسلسل تلفزيوني، أعطوني النص وما زلت أفكر، بقائي مرهون بما سيستجد، سأنتظر وأرى، ومن ثم أقرر، وبالمناسبة أرسلت إلى الفرقة القومية مسرحية لابد أن أشتغلها وأعرضها باسم فرقة ناهدة الرماح، لها علاقة بكل الأدباء والشعراء والثقافة المعطلة، وأريد أن أرى من لا يمنحها الفرصة للعرض، سأقوم أنا بإخراجها فقط، والذي سيمثلها هو الفنان سامي عبد الحميد وعدد من الفنانين· * حين شاهدوك الناس في بغداد، بأي صورة تذكروك؟ - هناك حقيقة جعلتني أضجر منها متكررة وتتكرر يوميًا، وأنا أفتخر به، وهو دوري في مسلسل (جرف الملح)، فأينما أذهب ينادونني ب(فزع)، وحتى في أستراليا الجالية العربية، وليست العراقية فقط، يشيرون إليّ بفزع· * هل كرهت هذه الشخصية؟ - على العكس، لا أكره هذا، بل إنه يرجع لي ما سرق مني من تعب في الحياة· * هل من كلمة في نفسك الآن تود قولها؟ - منذ أن جئت إلى هذا اليوم الذي يحمل الرقم (18) في بغداد، دائرتي والفرقة القومية للتمثيل لم يرفع أحد من أعضائها التلفون للاتصال بي، عدا الرجل شفيق المهدي، الذي هنأني بالوصول، 12 سنة مفارق للفرقة القومية وأنا الذي أسست الفرقة القومية، أقولها بكل ثقة، فالسينما والمسرح غازي الكناني هو الذي بناها، هذا يفترض أن يكون جزءًا من اهتمام الدولة، الدولة مسؤولة عن هذه (الثلمات) التي لا تغتفر، الدول والحضارات بناها الفنانون والأدباء والشعراء والصحافيون، وبغير هؤلاء لا تبنى أي دولة في العالم، ولا أعرف لماذا الحكومة لا تستدعي الفنانين المغتربين وتجعلهم مستشارين للنهوض بالحركة الفنية· دردشة: عبدالجبار· ع