بقلم: علي السيار· أون إسلام جلسنا ننتظر زميلنا الذي تأخر حتى بدأ القلق والتبرم على وجهي، أما هو فكانت على وجهه علامات الرضا والهدوء·· لما نظرت إليه أخذ نفسا عميقا متمتما (الحمد لله) حتى كأن الكلمة خرجت مع أنفاسه لترسم على وجهه وعلى المكان رسومات من الراحة والبشاشة· لما أتى زميلنا ظننت أنه سيعاتبه لكنه قابله بنفس البشاشة والمشاعر الفياضة قائلا (خيرا يا أخي الحبيب؟ أقلقتني عليك)··· ركبنا الحافلة، فردد أذكار ركوب الدابة ثم بدأ في أذكار الصباح فالطريق سيستمر لمدة ست ساعات ·· (سبحان الله) قالها وهو يزيح ستارة الشباك وكانت قطرات المطر تتساقط قائلا (كم بديع هو صنع الله ··كم جميلة الزروع وأبراج الحمام والبيوت المترامية البعيدة ··ما أروع صنع الله وما أجمله) ·· في الاستراحة بحث عن مكان المصلى وصلى ركعتين قائلا (كل مكان جديد تصلي فيه يشهد لك يوم القيامة) ··· حاضناً بكلتا يديه كوب الشاي ومراقبا لخيوط الدخان المتصاعدة قائلا (لا حول ولا قوة إلا بالله) ولم يمهلني كي أسأله قائلا (انظر حولك الناس في غفلة كبيرة عن ربنا وأحس أن ربنا ليس له مساحة ذات بال في حياتهم نحتاج نعمل مع الناس أكثر)·· عندما وصلنا المكان خرج للشرفة كان صوت الرياح يطرق الشباك الزجاجي كان ينظر إلى السماء ويسبِّح الله ويثني عليه ثم أغمض عينيه ورفع يديه بالدعاء·· سحب سجادة الصلاة ونفض عنها الغبار وصلى ركعتين بمنتهى الخشوع والتأني والراحة ··أحسست أنه نفض غبار السفر عنا وغبار الحياة عن المكان·· كان يتحدث معنا في السياسة والأدب والاقتصاد والرياضة والمجتمع ·وعن نفسه وبيته وأمنياته وتخوفاته·· كان يتحدث عن الجماعة وثوابتها ومتغيراتها وفضلها وعظمتها كأنما هو الذي أسسها·· كان يتحدث عن إخوانه الكبار بمنتهى الحب والرضا والإجلال والثقة·· كان يتحدث عن شباب الدعوة بمنتهى الحب والحنوِّ والأمل المفعم بالثقة·· تحدث كثيرا لكن كلامه كان مربوطا بمحور ارتكاز ما ·· ومشاعره وأحاسيسه مركزة حول هذا الشيء، لا لكمية الآيات والأحاديث والآثار التي يستشهد بها إنما بسبب شيء ما·· نعم كان يتحدث بعفوية ونضج وصدق·· نعم كان صادقا في كل شيء حتى في ضحكته وبسمته ونومته ويقظته وفي أخذه وعطائه ·· كان يعيشنا بكلنا ونعيشه بكله، لكنه كان مرتبطا بشيء ما ·· شيء جميل وراق وجليل·· لا أدري ماذا أقول بالضبط لكني أحسب أنه كأنما يتحرك في مسارات وخطوط ومربعات ودوائر ومساحات وتشيكلات كلها مرتبطة بالله، تذكرت الجنيد وهم يسألوه عن الحب وكان فتى صغيرا فدمعت عيناه، وقال إن تعيش بالله ومع الله وإلى الله·· وتذكرت كلام الإمام (القرطبي) عندما قالوا عن ابن عباس (مات ربَّاني هذه الأمة)·· قال ربَّاني لأنه كان يسوس حياة الناس بالقرآن ·· فقال أحدهم: ما معناه: كان ابن عباس يعيش بالله وكان عندما يشرح القرآن في مكة فيسمعه العجم فيسلمون لحاله وعذب كلامه وهم لا يفهمون اللغة العربية·· إنه الانتساب إلى الله ·· كما جاء في الحديث القدسي (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ·) نعم وهذا ما جعل صلة (بن اشيم) وهو من هو في العبادة والزهد والفقه والعمل لله، فيذهب إلى فراشه من كثرة عمله لله زاحفاً قالوا عندما ضلت بغلته في سفره وعليها طعامه وشرابه فأقسم عليها أن تأتي فأتت·· صفة الصفوة·· إنه العيش مع الله بل قل الميلاد الحقيقي والعيش الحقيقي·· فكل واحد منا له ميلاد إلا أهل الله لهم ميلادان ..الميلاد الأول ثم ميلاد التعرف على الله·· أنظر إلى الحق تبارك وتعالى وهو يقول (يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحيكم )·· إنها حياة ، نعم هذا نداء للأحياء جسدا لا معية وقلبا وعيشا·· أن يحيوا من جديد حياة جديدة وميلاد جديد أروع وأعلى وأجمل ·· إنه الانتساب إلى الله كما جاء في الأثر أنا جد كل تقي ·· وسلمان منا أهل البيت ·· وهلم إلى ميراث رسول الله ·· ومصداقا للنداء القرآني الجليل (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون··) نعم يجب أن ننتسب إليه سبحانه وتعالى كما ينتسب أحدنا لعائلته أو لبلده أو لشركته·· والانتساب ليست كلمة تقال بل حياة تعاش·· والانتساب ليس رداء ملائكة لا تخطأ لا بل هو انتساب حقيقي مهما وقعت أو أذنبت أو أخطأت، فتذهب بقوة ترتمي على أعتاب عبوديته تائبا عازما على العودة· قال العلماء: الرباني من يتولى أمر الناس فيربيهم بصغار العلم قبل كباره ·· إنه الانتساب والعلو ·· عندما كنت أتأمل سلوك مسؤولي هذا كنت استحضر صورا كثيرة من أولي السبق والفضل ومن أهل الله الربانين: فهذا صلة ابن اشيم وجد شبابا يلعبون فقال لهم: تلعبون بالنهار وتتسامرون بالليل فمتى يكون السفر إذن؟ إنها طبيعة مركوزة في الرباني وسمتٌ وسلوك لا يرضى اللهو ولا الغفلة فيحاول أن يأخذ الناس إلى الخير· وكما جاء في الأثر عن سيدنا (داود) يقول لله: ماذا أفعل·؟ فيقول له (حببني إلى خلقي)، فقد كان صاحبي يدلنا على آيات الله ونعمه علينا·· كان يدلنا على الخير ويأمرنا به وينهاني عن كل شيء يضرنا ويؤذينا كما قال ربنا (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت)· كانت روحه الوثابة ونفسه العالية وثباته يذهلنا لا ضعف ولا وهن ولا استكانة·· تماما سمات الرباني كما وصفها الله عز وجل· (وكأين من نبي قاتل معه ربِّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا)· كان مسؤولي هذا أحسن منا في كل شيء وزائدا علينا في كل شيء·· كان ارتباطه بالله يعصمه من الزلل ومواطن الخطأ رغم استغفاره الدائم، كان حرصُه على العبادات والطاعة يزيده قوة وصلابة وترتيب في حياته، كان ترفعه عن ذكر الناس بسوء يجعلك تحس أنه أرقى من كل الناس، كان حبه لدعوته يجعلك تجله وتحترمه· كان حبه لإخوانه باديا ظاهرا في ثنايا كلامه وفي ومضات عينيه، كان كله ثقة في الله وفي نصر الله وفي معيته·· عندما قال له صاحبي إننا كمن يحرث في البحر رد عليه بثبات وقوة من قال هذا لن يخذلنا الله أبدا· هذه هي الربانية معاني وموقف وأحاسيس وسلوك·· فمن منا يشتاق لهذا الانتساب الجليل؟ * تذكرت كلام الإمام (القرطبي) عندما قالوا عن ابن عباس (مات ربَّاني هذه الأمة)·· قال ربَّاني لأنه كان يسوس حياة الناس بالقرآن ··فقال أحدهم: ما معناه :كان ابن عباس يعيش بالله وكان عندما يشرح القرآن في مكة فيسمعه العجم فيسلمون لحاله وعذب كلامه وهم لا يفهمون اللغة العربية· * إنه الانتساب إلى الله ··كما جاء في الحديث القدسي (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ·)