توفي قبل أيام الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس عن عمر يناهز 83 عامًا في المكسيك، حيث كان يرقد في أحد المستشفيات· والمفارقة أن وفاة فوينتس أتت بعد أيام على شائعة وفاة صديقة ماركيز عبر ال(فايس بوك)، إذ تهافتت مجموعة من الناشطين في هذا الحقل لرثاء الروائي الكولومبي وهو على قيد الحياة· كان الروائي كارلوس فوينتس في الأرجنتين قبل وفاته بأيام، في زيارة إلى معرض الكتاب في بينوس آيريس· هناك أعلن عن مشاريع جديدة، قائلاً إن في جعبته مشاريع تنتظر التنفيذ، لكن الموت كان أسرع من مشاريعه· ربما الموت هو الفصل الأخير من روايات فوينتس، والكتاب كلهم، وهو دائماً ما يكون عنواناً متقدماً في الكتابة، لا تجيب عنه الكلمات بقدر ما تبقى في دائرة الحيرة، تتكبد العجز في الإجابة عن سؤال الوجود· والنافل أن فوينتس كان يقول إنه يكتب لأنه يتنفس، أي أن الكتابة بالنسبة إليه هي فعل بقاء، ما دام يعيش ويتنفس فهو سيكتب، لتنقطع الكتابة بموته فحسب· فوينتس أحد أكبر أدباء المكسيك، وأحد الكتاب القلائل الذين أرسوا دعائم كتابة سردية جديدة في مجال الرواية· التصقت أعماله بصورة أميركا اللاتينية واقترن اسمه بالأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز وكورتاثار وفارغاس يوسا وغيرهم من روائيي أميركا اللاتينية· بقي فوينتس مجهولاً لدى القارئ العربي مثل معظم كتّاب أميركا اللاتينية، إلى أن صدرت في بيروت ترجمة لروايته (موت أرتيمو كروز) (ترجمها إلى العربية محمد عيتاني وصدرت عن مؤسسة الأبحاث العربية عام 1984) التي أكسبته بعد صدورها شهرة وسمعة عالميتين، يصفها كاتبها بأنها حوار مرايا بين جوانب شخصية أرتيمو كروز العجوز المحتضر الذي يحاول من خلال الذاكرة ترميم ما تبقى من حياته خلال 12 يوماً· يدير فوينتس هذا الحوار بمزيج من الواقع والفانتازيا ومن الذاكرة والاختلاق· فوينتس الذي قرأنا له بالعربية روايتي (الحملة) و(ديانا) وغيرهما، ترجمت له قبل مدة رواية (كرسي النسر)، حيث قدم تشريحاً نفسياً وفكرياً للمتنافسين الكبار على السلطة وطرائق وصولهم إلى الحكم، فاضحاً قذارة المطبخ السياسي في دول العالم النامي الذي يجسد فيه كرسي الحاكم معنى الرمز المختفي خلف الحجب· وفي الطريق إلى هذا الكرسي فإن كل شيء متاح ومغفور ما لم يأت بالفشل· وكانت روايته (كريستوف وبيضته)، بحسب النقاد، الرواية التي أدخلته التاريخ الروائي، خصوصاً من ناحية اللغة والفانتازيا، فقد جعل من جنين لم ير الدنيا بعد بطلاً فاعلاً محركاً للأحداث· مديح الكذب إلى جانب حبكاته الروائية، برع فوينتس في التنظير للرواية التي تجمع بين الواقع والخيال، وهو والقائل بنظرية مديح الكذب على شاكلة (أعذب الشعر أكذبه)، وكان يعتبر أن (الفرق بين الأدب والصحافة يكمن في تقديم الحقيقة، فالصحافة مهمتها السعي وراء الحقائق)، في الوقت الذي )يلعب فيه الأدب بالحقائق والأكاذيب بهدف إثبات فكرة عدم وجود حقيقة مطلقة)، مضيفاً أنه (في الأعمال الروائية ثمة دوماً شك وغموض، لكن الصحافة لا يمكنها التسامح إزاء هاتين الصفتين من منطلق سعيها إلى تقديم الحقائق... وعلى رغم أن الصحافة لا تقدم الحقائق في جميع الأوقات إلا أن الصحافي يعتقد دوماً أنه يلتزم الحيادية في كتاباته)· والرواية كانت بالنسبة إلى فوينتس (محاولة لمد اليد إلى الآخر)، وهي (تفوق بقية الفنون الأدبية قدرة على توضيح عدم التفاهم، والروائي المعاصر يحاول أن يستكشف سوء التفاهم هذا ويعبر عنه، فيفعل ذلك انطلاقاً من الاختلاف وليس من الوحدة التي ستكون مزيفة حتماً، وعليه تقبل هذه التعددية في واقعه)· واعتبر فوينتس أن سرفانتس أهم كاتب، وقال: (هذا النبع المتدفق الذي لا ينضب أبداً هو صاحب المسيرة الحقيقية للرواية، وهو الجذر الأصلي لهذه الشجرة السردية الوارفة بشكلها التي هي عليه ومضمونها الموجود تقريباً في جميع النصوص التي نقرأها في هذا المجال)· وأضاف: (أقرأ دون كيشوت كل سنة باستمرار، وفي كل مرة هي قراءة مختلفة بالنسبة إليّ، وجدت في هذا الكتاب الحرية لتعددية الأجناس السردية، ففيه رواية الفروسية، رواية الحب، الرواية البيزنطية، الرواية داخل الرواية)· تجربة منذ أكثر من 50 عامًا، لم يتوقف فوينتس عن الكتابة وتقديم أعمال روائية مدهشة لقرائه المغرمين بنتاجه السردي في كل أنحاء العالم· استطاع أن يعبِّر بصدق عن الواقع المعاصر المعاش في أميركا اللاتينية، خصوصاً في بلده المكسيك، وتمثل أعماله الأدبية في الأوساط النقدية الغربية ما يسمى بسرد اللاتينو أميركي· رأى فوينتس أن أعماله تدور في دائرة الحداثة قائلاً إن (السخرية تنسف الطبقية والتراتبية)، وأكد أن (القضية ليست عدم الفهم بقدر ما هي الفرق بين أن الأدب الكلاسيكي الكبير قام على الوضوح مثلما هو عند هوميروس، حيث يكون الجميع أبطالاً وآلهة يتكلمون لغة واحدة باستثناء حوريات البحر، فيما الأدب الحديث يقوم على التعبير عن الالتباس، وتالياً عن سوء التفاهم وليس انقطاع الاتصال)· تأثر فوينتس بمواطنه الشاعر أوكتافيو باث، كذلك بالشاعر خوسيه غوروستيزا، وتبدى هذا التأثير في الإشكالية المرافقة لمبادئ الثورة المكسيكية ومثلها التي احتفى بها فوينتس في معظم أعماله الروائية، حيث تتميز عموماً باستخدامه لمرحلة ما بعد الثورة المكسيكية كخلفية تتحرك عليها شخصياته، وتتجسد من خلالها أحداث ومواقف إبداعه· قال في شهادة له عن كتاباته: (بدأت في تشيلي بخربشة قصصي الأولى، تعلمت بأن عليَّ الكتابة باللغة الإسبانية، وعرفت إمكانات هذه اللغة، أوصلتني للأبد إلى تلك الأرض الحزينة والرائعة، إنها تحيا في داخلي، حوّلتني إلى رجل يعرف كيف يحلم، يحب، يحتقر، يكتب باللغة المولع بها، بالإسبانية فحسب، كذلك تركتني منفتحًا على علاقة متبادلة ومتواصلة مع الواقع)· كذلك لطالما كانت لفوينتس مواقف في السياسية، وقد أصدر قبل سنوات كتاباً بعنوان (ضد بوش) وفي آخر تصريحات له قبل أن يغيبه الموت أعرب عن انبهاره بموجة (الربيع العربي) التي أطاحت بأنظمة ديكتاتورية متسلطة· وكان الأديب المكسيكي قد أشاد في بداية الثورة المصرية مطلع العام الماضي بنجاح الشباب في إقصاء الرئيس حسني مبارك من السلطة بعد 30 عاماً من الحكم، معتبراً أنها خلصت مصر من (نظام يعود لعصر الأهرامات)· وذكر فوينتس: (الشعب هبَّ من سباته، ظهرت طبقة وسطى وعمالية لتثور على نظام سياسي يعود إلى عصر الأهرامات· كل هذا انتهى وستبدأ إصلاحات جديدة، إنه أمر يدفع إلى التفاؤل والحماسة)·