هو الإمام أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطي، ولد بمدينة الكوفة عام 80 هجرية، وكان والده تاجر أقمشة، وقد لزمه أبو حنيفة وتعلم منه أصول التعامل مع البائعين والمشترين، كما لزم أبو حنيفة عالِم عصره حماد بن أبي سليمان وتعلم على يديه الفقه واستمر معه إلى أن مات. بدأ بتلقي العلم عنه وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقد لزمه 18 عاما من دون انقطاع، وعن ذلك يقول أبو حنيفة: (بعد أن صحبت حمادا ثمانية عشر عاما نازعتني نفسي لطلب الرياسة، فأردت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي، فخرجت يوما بالعشي وعزمي أن أفعل، فلما دخلت المسجد رأيته ولم تطب نفسي أن أعتزله فجئت فجلست معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالا وليس له وارثٌ غيره، فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي. ثم قدِم، فعرضت عليه المسائل وكانت نحوا من ستين مسألة، فوافقني بأربعين وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت وهكذا كان. اهتم أبو حنيفة ب(الفقه الفرضي) أو الافتراضي، بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا يقولون نحن مضطرون أن نعلم حكم الله في أمر حصل، أما إذا لم يقع فلا نحمِّل أنفسنا هذه المؤونة، ولكن أبا حنيفة كان على النقيض إذ كان يفرض الوقائع وإن لم تقع، وكان يتأمل حكمها ويعطي كلا منها فتوى، وهذا الأمر أعطى فقهه غزارة وغنى ومدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع والأكثر استجابة لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غدا. وكان الخليفة المنصور يرفع من شأن أبي حنيفة ويكرمه ويرسل له العطايا والأموال ولكنه كان يرفض، وذات مرة عاتبه المنصور على ذلك قائلا: لمَ لا تقبل صلتي؟. فقال أبو حنيفة: ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبِلته إنما وصلني من بيت مال المسلمين ولا حقَّ لي به. وذات مرة دخل أبو حنيفة على المنصور فقال له أحد الجالسين: هذا عالِم الدنيا اليوم. فقال له المنصور: يا نعمان من أين أخذت علمك؟ قال: من أصحاب عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر _أهل الحديث_ ومن أصحاب عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس ومن أصحاب عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود _أهل الرأي_. وقد خرق أبو حنيفة الحدود الفاصلة بين المذهبين عندما ذهب إلى أهل الحجاز وتعلم منهم الحديث وتعلموا منه كيفية استخراج الأحكام فاستفاد وأفاد. وعندما قتل أبو جعفر المنصور محمد بن عبد الله بن حسن الملقَّب ب(النفس الزكية) من الطالبيين، بدأ أبو حنيفة يغيِّر موقفه من الخليفة المنصور وأخذ ينتقد مواقفه وأخطاءه عندما تُطرح عليه الأسئلة، وكان ذلك يُغيظ الخليفة كثيرا. وذات مرة انتفض أهل الموصل على المنصور وكان قد اشترط عليهم أنهم إن انتفضوا حُلت دماؤهم، فجمع المنصور العلماءَ والفقهاء والقضاة وكان بينهم أبو حنيفة وقال لهم: أليس صحَّ أن رسول الله قال: المؤمنون عند شروطهم يلتزمون بها وأهل الموصل قد اشترطوا ألا يخرجوا علي وها هم قد خرجوا وانتفضوا ولقد حلت دماؤهم فماذا ترون؟ قال أحد الحاضرين: يا أمير المؤمنين، يدك مبسوطة عليهم وقولك مقبول فيهم فإن عفوت فأنت أهل العفو وإن عاقبت فبما يستحقون، والتفت المنصور إلى أبي حنيفة يسأله فقال أبو حنيفة: إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه وشرطت عليهم ما ليس لك لأن دم المسلم لا يحِل إلا بإحدى ثلاث فإن أخذتهم أخذتَ بما لا يحل وشرط الله أحق أن يُوفى به. عندئذ أمر المنصور الجميع أن ينصرفوا ما عدا أبي حنيفة وقال له: إن الحق ما قلت، انصرِف إلى بلادك. وكان أبو حنيفة أوَّل من رتب مسائل الفقه حسب أبوابها، وقد دونها الإمام أبو يوسف في سجلات حتى بلغت مسائله المدوَّنة خمسمئة ألف مسألة، وقد انتقل تلاميذه البالغون 730 شيخ إلى بلادهم خاصة بلاد الأفغان وبخارى والهند، فانتشر فقه الإمام أبي حنيفة حتى قيل إن ثلثي المسلمين في العالم كان على مذهب الإمام أبي حنيفة، ومن أشهر مؤلفاته كتاب (الفقه الأكبر) الذي بيَّن فيه عقيدة المسلمين وردَّ فيه على المبتدعة. وكان أبو حنيفة ينتقد القضاة بشدة ويبيِّن أخطاءهم، فاتخذ الخليفة المنصور هذا الموقف ذريعة للتخلص منه فعرض عليه تولي منصب القضاء فأبى ورفض، فحبسه ثم خرج من السجن ومُنِع من الفتوى والجلوس إلى الناس حتى توفي عام 150 هجرية.