بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر 2- مسؤولية الفكر عن الأزمة: إنّ مسؤولية المفكر والفكر والثقافة عامة عظيمة وخطيرة، فالفكر شاهد ومشهود وشهيد، فهو يدلي بشهاداته على حال الزمان والمكان، مُطالب بتحرّي الدّقة والصدق والكفاية في تسجيل شهاداته في المنطلق والمنهج والغاية. والفكر أداء ومردود، نظر وعمل، مادة وروح، منجزات في الزمان والمكان، يسجّلها التاريخ ويحكم عليها الإنسان، فنكبة سقراط ومحنة أحمد بن حنبل وغيرها مما يعبّر بجلاء عن الصراع الأبدي بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الجمال والقبح وبين الخطأ والصواب، كل من ذلك يحوي في أسبابه وسبله وإفرازاته إما بذور الخير واتجاهات الحقّ والعدل والحرية والكرامة وإما منابت الشر ونوازع السوء والظلم والقمع والاستبداد وإذلال الآخر وامتهان كرامته، لذا خلّد التاريخ وإلى الأبد قصص العظماء وسيّرهم ومواقفهم مدوّية إلى الأبد ينهل منها الإنسان اقتداء واعتبارا وتتشبّه بهم الأجيال المتعاقبة تأسّيا واتباعا، كما دوّن التاريخ من دون رحمة أو شفقة أسماء عديدة في سجل المغضوب عليهم ورمى بهذه الأسماء في مفرغات السوء والشر لتكون عبرة لمن يعتبر. وتحت وطأة شدّة الصراع بين الفضيلة والرذيلة كثيرا ما ينكسر الحقّ ويعلو الباطل تحت سطوة الجهل أو قوّة المال أو قوّة الحديد والنار أو حتى قوّة الحيلة والمكر والخبث لأنّ الناس كثيرا ما يأسرهم المال أو السلطان، فيكون الفكر النيّر الحق شهيدا مثلما كان سقراط ضحية الكلمة الطيّبة النبيلة الصادقة ومثله أحمد بن حنبل ومثلما كان شهداء الدين والتوحيد في الإسلام وفي غيره وشهداء الوطن في الجزائر الحديثة والمعاصرة وفي غيرها وشهداء العدل وشهداء الحرية والكرامة والعزّة وشهداء الحق والخير عامة. فالدور المنوط بالفكر والثقافة تسجيل الشهادات مع الحرص على ضمانها بالدقة والصدق المطلوبين ليكون دورا فاضلا مشهودا بالخيرية لا غير، وأن يستشهد القائمون على هذا الدور في سبيل شهاداتهم لأنّ التردد أو التراجع عن ذلك انتكاسة لما يجب أن يكون عليه أهل الحق والعدل والجمال والخير عامة، فيُفسح المجال لاستئساد أهل الباطل والجور ولاستنسار الجهلة وضعاف النفوس فينزل غضب الفطرة السليمة على البشر وتحلّ بهم لعنة السماء بسبب غياب التوازن الطبيعي الإلهي في الحياة بما تصنعه أيادي الإجرام. ولما كان الفكر بهذه الدرجة من التأثير على الحياة والدفع بها في اتجاه القوّة والمنعة أو في اتجاه الضعف والسلبية فهو كثيرا ما يكون لدى العديد من المفكرين والمثقفين وحتى عامة الناس بعيدا عن المطلوب من الدقة والصحة والعمق والكفاية، فيؤدي ذلك إلى اختلال الفكر ذاته واختلال العلاقة بين الفكر والحياة وواقع في جميع جوانبها، فكثيرا ما يخطأ الفكر في التصور والتحليل والتركيب والاستنتاج فلا يربط الظاهرة بالشروط التي أحدثتها على أساس مبدأ العلية الكافي أو مبدأ الحتمية كما هو في المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والتكنولوجية بل يربط الظاهرة بإفرازاتها وتداعياتها ونتائجها السلبية أو الإيجابية وهي متعددة ومتداخلة ومتشابكة ومعقدة متوهما وموهما غيره بأنّه وقف على أسبابها، هذا ما يفعله الكثير في قراءاتهم لواقع الدول والشعوب التي تعاني التخلف والانحطاط مجسدا في الفساد والاستبداد الداخلي وفي التبعية للخارج، بحيث يربط الكثير أزمة هذه الشعوب والأمم ربطا علّيا بما أفرزته هذه الأزمة ذاتها لا بما الدواعي والأسباب التي أحدثتها وأوجدتها، حيث ينصب الاهتمام بعوارض ومنتجات الأزمة لا بالأزمة ذاتها وبما تخلّفه المشكلات من آثار على الحياة لا بالمشكلات عينها وفي هذا مجانبة للحقيقة وانحراف عما تتطلبه الأوضاع المتأزمة من ضرورة وجود رؤية صحيحة ثاقبة وإستراتيجية مضبوطة تتحدد فيها الأساليب والأهداف بما يسمح بتحويل الإستراتيجية والفكر إلى واقع ملموس وتسخير جميع الإمكانات المتاحة النظرية والعملية بما من شأنه أن يحقق التنمية الشاملة والتطور والازدهار في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن والعلم والتكنولوجيا وسائر مجالات الحياة، أما عند العجز عن وعي الواقع وعن إيجاد نظرية صحيحة تفسّره ففي ذلك خطورة كبيرة على كل محاولات التنمية والإصلاح والتغيير والنهضة.