بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر 8- الأزمة والدين: إذا كان في الإنسان جانب إيماني روحاني فطري يدفعه نحو معرفة الغيب وربط حياته نظرا وفكرا وعملا وممارسة في المبدأ والمسار والمصير بالدين وما يحتويه من معاني وقيّم، وإذا كان بطبعه ميّالا إلى المعتقد الديني وإلى التجاوب مع الشعائر والطقوس والعقائد الدينية، هذا يعني أنالدين يمثل أحد المرجعيات الرئيسية للمعرفة الإنسانية التي تحدد نمط حياة الإنسان وتوجهها وتتحكّم فيها، مثله مثل العقل والعلم، حتى أنّ الدين جيء لأجل ترشيد العلم الذي هو من إنتاج العقل، والناس نوعان مؤمن بالدين وكافر به ملحد، والكافر بالدين له دينه ومعتقده الخاص، والمعتقدات الدينية التي عرفها الإنسان ولازال يعرفها كثيرة جدّا ومتنوعة، الفكر الإسلامي يقسّم الدين إلى قسمين، وحي سماوي إلهي أوحى به الله لأنبيائه ومُرسليه ليصححوا أخطاء البشر في حياتهم وليكونوا شهداء على الناس ويمثله الإسلام، ووحي إنساني أرضي أوحت به عقول الناس وأنفسهم ضعفا وقصورا وخوفا ورهبة وطمعا ورغبة وتمثله سائر المعتقدات الدينية غير السماوية، وأمام صعوبة الحياة وجد الإنسان ضالّته في الدين مثلما وجدها في العلم وفي الأخلاق والفلسفة والفن وفي كثير من المرجعيات المعرفية النظرية والعملية، وامتزج الدين وتلاحم مع كافة جوانب الحياة ومرجعياتها لكونه عقائد إيمانية فكرية نظرية وشرائع عملية تطبيقية يرى الإنسان بأنّ الاستغناء عنها أمر مستحيل. بزغت شمس الإسلام في بلاد العرب ثم انتشر ضياؤها في مختلف أصقاع المعمورة، وكان للعرب ولغتهم وثقافتهم دور هامّ في نشر تعاليم الإسلام في العالم المترامي الأطراف وفي بناء حضارة رائدة لم تكن حكرا على العرب وحدهم بل أسهمت فيها شعوب مختلفة الأجناس والألوان والثقافات وحتى الديانات وذلك بفضل قوّة الإسلام وعظمته في دفع أتباعه نحو قيّم التوحيد والإيمان الصادق الصحيح والوحدة والتعاون والتسامح والعمل والإبداع، القيّم التي حرّرت الإنسان من ربقة العبودية والجور والفرقة والانقسام والتخلّف والانحطاط في الفكر والمعتقد وفي السلوك وفي الحياة عامة، القيّم التي افتقدتها الشعوب أفراد وجماعات في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر تحت تأثير عوامل كثيرة موضوعية مثل الاستعمار والغزو الفكري والثقافي والانفتاح على الآخر فكرا وثقافة وتكنولوجيا ومن دون حساب أو رقابة والعمالة للآخر والعولمة وغيرها، وعوامل ذاتية كثيرة أهمّها ضعف الإيمان بالله واختلال الفكر وعدم التطابق بين النظر والعمل والانقسام والفرقة والتخلّي عن قيّم الإسلام العليا السمحة التي عرفها المسلمون الأوائل وكانت وراء نهضتهم وحضارتهم والاشتغال بالدنيا على حساب الدين، الأمر الذي جعل المسلمين يعيشون بحق أزمة عميقة في دينهم ودنياهم. أزمة المسلمين في دينهم يعكسها حالهم في الحياة عامة، فكرا واعتقادا وتعبدا ومعاملات، فهو حال مختل ضعيف وفاسد، بحيث لا ينسجم فيه المظهر مع المخبر ولا الأصل مع فروعه ولا المعتقد مع الممارسة ولا القول مع الفعل ولا الفعل الدنيوي مع الفعل الأخروي، حياة أغلب الناس يطبعها النفاق والرياء والتناقض، تناقض في فهوم القرآن والسنّة بل تناقض في الفهم الواحد لكتاب الله وسنّته، تمذهُب وتناقض بين المذاهب إلى حد الحرب والاقتتال، وللأسف هذه الحال المتردّية المزرية تُحسب على الإسلام وليس فقط على المسلمين لدى الأمم المتقدمة ولدى مثقفيها وعلمائها ومفكريها بقصد وبغير قصد، حيث أصبح الإسلام متهما في عقائده وشرائعه بالقصور والتخلّف والانحطاط وهو سبب أزمة المسلمين ومتهما بممارسة العنف والإرهاب وعدم قدرته على استيعاب قيّم الحضارة المعاصرة المادية والفكرية وعلى التطور والازدهار، وهو حكم جائر يجانب للحقيقة بحيث لا يميّز بين الإسلام والمسلمين، فشتان بين قيّم الإسلام وأحكامه وتعاليمه في الكتاب والسنّة وبين من يحملون اسم الإسلام ويدّعون الانتماء إليه وتمثيله والدفاع عنه والإسلام منهم براء لما هم عليه من فكر مُناف لعقائده وسلوك مُباين تماما لشرائعه، فالفكر جامد راكد فاسد والسلوك متعفّن لا خير فيه حريص على الموبقات وعلى كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن، معظم الناس فاسد في ذاته مفسد لغيره ولوطنه ولدينه. الحال الفاسد المتعفّن جعل المسلمين ومن ورائهم الإسلام في موقع المغلوب الضعيف المتهيّب وفي قفص الاتهام بالانحطاط والعنف والإرهاب خاصة ممن يكيدون للإسلام والمسلمين من القدماء أو من الجدد المعاصرين من أصحاب الديانات والثقافات الأخرى البغيضة الحاقدة مثل أصحاب المسيحية المتطرفة وآل صهيون والماسونية وسائر الاتجاهات الدينية والثقافية الموروثة والجديدة المعارضة للإسلام في السرّ والعلنية، ومادامت هذه الاتجاهات في موقع قوّة يمتلك أهلها التقدم العلمي والتكنولوجي والسيطرة العسكرية، فالقوّة مسخرة ضد الإسلام والمسلمين المضطهدين في مختلف بقاع الأرض بغير شفقة لا رحمة، وردود الأفعال العنيفة لبعض الجماعات الإسلامية على الاضطهاد الذي يتعرّض له المسلمون زاد في درجة اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب والإسلام براء من هذا وسلّط عليهم أقصى العقوبات المادية والمعنوية ووجد أعداء الإسلام ضالتهم في ذلك، فتفاقمت مشكلاتهم وتعمّقت أزمتهم وازدادت أوضاعهم تأزما ولا أمل في نجاتهم.