* شقيق البوعزيزي: "منظومة الاستبداد لم تتغيّر"! عامان منذ أن (أشعل) محمد البوعزيزي شرارة الثورة في تونس، لكن تونسيين كثر يقولون إنه لم يتغيّر شيء. حتى شقيق البوعزيزي قال في تصريحات لصحيفة (الشرق الأوسط) إن منظومة الاستبداد لم تتغيّر، وإن الجدل السياسي طغى على الساحة دون أن يستفيد منه الفقراء الذين عبّر شقيقه عن آلامهم. في لحظة فارقة رشق متظاهرون الرئيس التونسي المنصف المرزوقي ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر بالحجارة خلال احتفالات الذكرى الثانية للثورة التي أقيمت في (سيدي بوزيد) هذه المدينة المهمّشة اقتصاديا في وسط غرب البلاد التي أطلقت شرارة (الربيع العربي). "ارحل.. ارحل" تعود إلى تونس المتظاهرون عادوا يردّدون (الشعب يريد إسقاط الحكومة) و(ارحل ارحل)، في تعبير غاضب وساخط عمّا يحدث لهم بعد الثورة. المرزوقي طلب من التونسيين التحلّي بالصبر وقال في كلمة قوطعت بالصفير إن (الحكومة لا تملك عصا سحرية لتغيير الأمور وتحتاج إلى الوقت لإنهاء إرث 50 عاما من الديكتاتورية)، وأضاف: (أتفهّم هذا الغضب المشروع، لكن الحكومة حدّدت الداء وخلال 6 أشهر ستشكّل حكومة تصف الدواء لشفاء البلاد ممّا تعاني منه)، وزاد في حماس وسط هتافات الاستهجان من الحضور: (للمرّة الأولى لدينا حكومة لا تسرق أموال الشعب) فردّ أحدهم عليه بالقول: (جئتنا قبل سنة ووعدت بالتغيير خلال 6 أشهر، لكن لم يتغيّر أيّ شيء)، وأضاف آخر: (لا نريدك هنا)، وقال عاطل عن العمل: (النّاس في الحكومة يعملون كما لو أنهم يريدون معاقبتنا لأننا قمنا بالثورة، لا يفعلون شيئا لنا ولا يقومون سوى بتقاسم كراسي السلطة). إنها صورة واضحة لتونس ما بعد الثورة، يقول حامد نصري الذي قتل شقيقه شوقي إن (مدينة منزل بوزيان جنوبسيدي بوزيد أعطت الكثير للثورة لكنها لم تحصل على شيء من الاستثمارات والتنمية)، وأضاف أن (الوضع أصبح أسوأ والبطالة ارتفعت). تشكّل الحكومة التي يقودها حزب النهضة الهدف الأوّل لهذه الانتقادات. وإلى جانب الصعوبات الاقتصادية تواجه البلاد باستمرار أعمال عنف تقوم بها جماعات إسلامية صغيرة، كما تشهد مأزقا سياسيا في غياب اتّفاق على الدستور المقبل بعد 14 شهرا على انتخاب الجمعية التأسيسية. يقول حمة الهمامي، الأمين العام لحزب العمال التونسي (حزب العمّال الشيوعي سابقا) الذي يقود تحالف الجبهة الشعبية، المعارض، إن (البطالة استفحلت، وتفشّى البؤس والشقاء وارتفع عدد جيوش العاطلين). وانتقد الهمامي الاحتفالات بالذكرى الثانية للثورة التي رأى فيها بذخا لا يشبه الثورة، (إنها لا تختلف كثيرا في طريقتها عن احتفالات السابع من نوفمبر التي كان ينظمها نظام بن علي على امتداد 23 سنة)، وقال إن الاحتفالات ستستنزف المال العام لزرع الأوهام والمخادعة والإنجازات الكاذبة من جديد. أمّا رئيس مجلس شورى حركة النّهضة فتحي العيادي فقد قال ل (الشرق الأوسط) إن استمرار بعض العوارض في مسار الثورة التونسية هو دليل على عمق التصدّعات التي أحدثها سقوط النّظام السابق واختلال التوازنات في الواقع السياسي والمجتمعي التونسي، وزاد قائلا: (لا سبيل لإعادة الاستقرار في هذا الواقع غير تحقيق مطالب الحرّية والكرامة لكلّ التونسيين)، وأكّد العيادي على أهمّية (القطيعة مع منظومة الاستبداد والفساد بما يفتح آمالا جديدة لهذه الثورة التي يجب أن تستكمل أهدافها بغض النّظر عن الحكومة التي ستحكم في المستقبل ما دامت الشرعية الثورية تأخذ مكانها في ضمائر النّاس ووجدانهم). للصبر حدود.. البعض برّر ما يجري في مناطق كثيرة من تونس وخاصّة المناطق التي قضت عقودا من الزمن في الفقر والخصاصة بفقدان الصبر في ظلّ ارتفاع صاروخي للأسعار وتراجع ملحوظ في المقدرة الشرائية لمعظم الطبقات الاجتماعية التونسية والرّبط المباشر بين الثورة والرفاه الاجتماعي لدى أبسط الفئات الاجتماعية. حكومة حمادي الجبالي عيل صبرها فهي تارة توزّع الأماني وتارة أخرى تعترف بضيق ذات اليد في ظلّ شعور عام يسود بأن الثورة التي ثارت على القمع والظلم والاستبداد ما زالت متعثّرة ولم ترق إلى حدود الآمال والانتظارات. وسيطرت المنافسات والسجالات السياسية بين اليمين واليسار على المشهد السياسي، ما أفقد الكثير صبرهم بعد عقود من الانتظار. وما زالت بعض الأحزاب المعارضة تعمل على توظيف الاحتجاجات الاجتماعية لحسابات انتخابية سياسية بالأساس وترى أن معارضة الحكومة وتضييق الخناق عليها لها ما يبررها. ولا يزال الوضع السياسي في تونس يتأرجح بين اليسار واليمين ولم يتوصّل التعايش الموجود بين الإسلاميين والعلمانيين في ظلّ (الترويكا) الحاكمة من تجاوز كثير من الخلافات التي عاشتها أجيال في الجامعة التونسية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. واكتشفت بعد الثورة أنها أعادت إنتاج نفس تلك الخلافات بعد أن وجدت أنفسها من جديد في صراع سياسي تمثّله السلطة ممثّلة في حركة النهضة ذات التوجّه الإسلامي من ناحية والتيارات اليسارية التي تلعب دور المعارضة وتحاول تحجيم (هجمة) الإسلاميين وشراهتهم التاريخية لممارسة الحكم. على الرغم من ظاهر التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين فإن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات الذين قدما على أساس أنهما يمثّلان التيارات العلمانية اتّضح أنهما لا يمثّلان سوى فئات محدودة من التيارات المناهضة للإسلاميين. فبمجرّد الإعلان عن فوز حركة النهضة الإسلامية بأكثر أصوات النّاخبين التونسيين في انتخابات نزيهة وشفافة راعت المعايير الدولية حسب كثير المنظمات والهياكل، اعترفت التيارات اليسارية بالهزيمة لكنها جلست على الربوة، على حد تعبير أحد قياديي حركة النهضة لإحصاء الهنات والمزالق التي تفرزها إدارة البلاد في مرحلة انتقالية أجّجت ملفات خمسين سنة من الحكم المتسلّط. وبدا أن التيارات اليسارية قد قبلت على مضض نتائج انتخابات المجلس التأسيسي ولم تكن على قناعة بأن تونس أصبحت تديرها قيادات إسلامية ورفض اليسار عروض حركة النهضة بالمشاركة في حكم تونس. خلافات لا تنتهي هاجمت تلك التيارات اليسارية منذ البداية برنامج حكومة حمادي الجبالي (القيادي في حركة النهضة) وقالت إن البرنامج لا يعدو أن يكون إعلانا عن (حسن النوايا) وهو لا يكشف عن خطّة عمل واضحة. وارتبط جانب كبير من الغموض بتذبذب ميزانية الدولة وعدم اتّضاح مواردها بعد سنة من الإطاحة بنظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. وهاجم اليسار المتشدّد كلّ الخطوات التي قادها الائتلاف الثلاثي الحاكم واتّهمه بعدم القدرة على إدارة الشأن العام واختبرت نواياه من خلال الّنزول أكثر من مرّة إلى الشارع (خاصّة أحداث 9 أفريل 2012 وما عرفته من مواجهات بين قوات الأمن والمحتفلين بذكرى عيد الشهداء). وتمكّن الائتلاف من الصمود في وجه الهجوم المتكرّر من كثير المحاور وخاصّة الدعم الكبير الذي تلقاه تحرّكات العاطلين عن العمل والمطالبين بالتنمية والتشغيل من قبل الأحزاب اليسارية. وفي هذا الإطار يقول جمال العرفاوي المحلّل السياسي التونسي إن تونس تخوض تجربة صعبة، إذ نجد أن التيارات الإسلامية ممثّلة في حركة النهضة في الحكم، بينما تجلس التيارات اليسارية في مقعد المعارضة. عمليا وكذلك علميا لا يمكن الجمع بين الأضداد ومع ذلك تمّت التجربة وإن كانت عسيرة في عدّة محطات لكنها قد تنتهي إلى صياغة عقد اجتماعي بين جميع الأطراف تختلف فيه المعادلة عمّا عرفناه من صراع يشبه (كسر العظام) طوال سنة طويلة وشاقّة من عمر التونسيين. وتبدأ الخلافات ولا تنتهي دائما من البرلمان أو (المجلس التأسيسي) الذي آل على نفسه صوغ دستور جديد، خلال عام من ظهوره إلى الوجود، أي بحلول يوم 23 أكتوبر 2012، إلاّ أن مجرّد اقتراح مسودة دستور على المناقشة بين أعضاء المجلس التأسيسي كشفت عن عمق الهوة بين اليسار واليمين من خلال التصادم حول محتوى الفصل الأوّل الذي يهتمّ بالهوية العربية الإسلامية لتونس. وانطلق جدل عميق حول اعتماد الشريعة كمصدر أساسي للتشريع وانقسمت الساحة السياسية التونسية بين مؤيّد بقوة لتطبيق الشريعة وهو يحظى بمساندة التيارات السلفية التي اصطفّت إلى جانب حركة النهضة في توجّهها، وبين رافض لهذا التوجّه ومنادٍ بضرورة مواصلة اعتماد مبدأ مدنية الدولة. وعبّرت بعض قيادات حركة النهضة (الصادق شورو والحبيب اللوز) عن دعمها لتطبيق الشريعة إلاّ أن القيادات التاريخية للحركة (الشيخ راشد الغنوشي بالأساس) حسمت الأمر وحافظت على نفس صياغة الفصل الأوّل من دستور سنة 1959 الذي أقرّه الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورفيبة وأجّلت التصادم إلى حلبة أخرى. حرب الشرعية.. انتظرت كلّ الأطراف السياسية بعضها في موعد 23 أكتوبر، وقالت التيارات اليسارية التي احتمت هذه المرّة تحت الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر المنظمات العمالية في تونس) إن ذاك التاريخ يسقط الشرعية على حكومة حمادي الجبالي، وعليها أن تبحث عن صيغة توافقية جديدة لحكم تونس بدءا من 24 أكتوبر وذلك على أنقاض الائتلاف الثلاثي الحاكم. إلاّ أن حركة النهضة قادت الجدل وتمكّنت من إقناع الساحة السياسية بأن الأمر يرجع إلى أعضاء المجلس التأسيسي لا غيرهم فهم الذين يقرّرون مواصلة الحكومة المهمّة أم التنحّي. وراهنت حركة النهضة في حسم هذا الأمر على أغلبية الأصوات التي تتمتع بها داخل المجلس التأسيسي في صورة اللّجوء إلى التصويت، وسارعت قبل أيّام من حلول موعد 23 أكتوبر وتحت ضغط مؤتمر وطني دعت إليه المركزية النقابية (الاتحاد العمالي) بهدف وضع روزنامة سياسية توضّح الرؤية بعد تاريخ انتهاء الشرعية. وأعلن الائتلاف الثلاثي الحاكم عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وذلك يوم 23 جوان في خطوة اعتبرها الكثير من الملاحظين غير منطقية وغير موفقة. ولكن التفسير الوحيد الذي اتّخذه ذاك التاريخ أنه مكن الحركة من بعض (الأكسجين) على خلفية التحالف الذي بني حديثا بين التيارات اليسارية والاتحاد العمالي. وقادت التحرّكات الاحتجاجية المشروعة في ظاهرها والداعمة لحقوق الفئات الضعيفة في التنمية والتشغيل، والتي تسعى بطرق خفية إلى إسقاط حكومة الجبالي في المحظور في باطنها. وقضت حركة النهضة وقتا طويلا في إخماد تلك الاحتجاجات قبل أن تحمل الاتحاد العام التونسي للشغل والتيارات المتحالفة معه مسؤولية ما جد من أحداث في مدينة (سليانة) (وسط تونس) نهاية شهر نوفمبر. وتطوّر الشدّ السياسي إلى حد إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابا عاما عن العمل يوم 13 ديسمبر الجاري، لكنه انتهى إلى الإلغاء في مرحلة أولى وإلى صياغة اتفاق هش مع الحكومة في مرحلة ثانية. السؤال الصعب.. بعد أشهر من النقاش المستفيض انتهى فصل من الجدل السياسي لتبدأ فصول أخرى. وفتحت واجهة جديدة بين حركة النهضة الإسلامية والتيارات السلفية التي اتّهمت الحركة بالابتعاد عن الإسلام، وعمدت تلك التيارات إلى السيطرة على المساجد وحاولت الذهاب إلى الشارع من خلال التظاهر المتكرّر ومهاجمة كلّ من يهاجم التوجهات الدينية للشعب التونسي. بقيت حركة النهضة في حيرة من أمرها، فهي لن تقدر على مواجهة السلفيين المتشددين في دينهم وتقول إن الحوار هو أفضل سبل التعامل معهم، لكنها كذلك باتت تحت سياط التيارات اليسارية التي تضغط من أجل لجم المد المتنامي للسلفيين الذين لا تثنيهم أيّ سلطة على مهاجمة تيارات اليسار. ووجدت حركة النهضة في أحداث السفارة الأميركية بتونس يوم 14 سبتمبر فرصة لتعديل كفة العلاقة مع التيارات السلفية التي اتهمت بمهاجمة السفارة. ويبقى التساؤل قائما بعد سنة من صعود حركة النهضة إلى الحكم، ما الذي كان بإمكان حكومة حمادي الجبالي أن تفعله للجهات التي عاشت الفقر لمدة عقود ولم تتمكن من فعله؟ فقد بات سؤلا صعبا، يحتمل الإجابة متناقضة مثل تناقض القوى السياسية في البلاد وتعرض تونس تجربة تقول إنها ناجحة في تعايش الإسلاميين مع التيارات العلمانية ودعت بقية بلدان الربيع العربي إلى الاحتذاء بالتجربة التونسية، إلاّ أن الواقع السياسي ما يزال متعثّرا وهناك وراء الأكمة ما وراءها. وفي انتظار موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة التي قد تفرز تيارات سياسية مغايرة، قد يختلف المشهد السياسي راديكاليا، فكيف ستكون صيغة التعايش حينئذ إذا ما ارتقت التيارات اليسارية التي قد تتحالف مع الدستوريين (نسبة إلى حزب الدستور الذي أسسه بورفيبة) وتطيح بالإسلاميين؟