بقلم: فهمي هويدي* لا يكفي أن يتجرع الإخوان السم لكي يستعيد الوطن عافيته المنشودة، لأن تحقيق ذلك الهدف له شروطه التي يجب أن تستوفى أولا. في الأسبوع الماضي عرضت الفكرة ودعوت قارئيها إلى الصبر عليَّ قبل مناقشتها والحكم عليها، لكن الأصداء توالت من جانب الذين لم يصبروا، وسارعوا إلى تسجيل انطباعاتهم على النحو الذي لا أستطيع أن أفصل فيه، لسبب جوهري هو أن المعلقين -وللجميع كل التقدير- أصدروا أحكامهم في القضية قبل أن أنتهي من مرافعتي. وسوف أكتفي هذه المرة بملاحظات مختصرة، منها أني أتفهم موقف الرافضين من ضحايا المواجهات على الأجهزة الأمنية وذويهم. وقد سبق أن عبرت عن تقديري لمشاعرهم، لكنني أقول إن من لديه حل آخر أفضل مما قلت فليتقدم به، وأنبه إلى أن المراهنة على (اللاحل) تعد فكرة عبثية يشكل الاستسلام لها إضرارا بالمصلحة العليا للوطن وبالأمة العربية بأسرها. وليس لدي ما أقوله للذين تمنوا أن يكون اقتراحي تجرع السم ووقف الأنشطة الاحتجاجية بمثابة دعوة إلى انتحار الجماعة، علما بأنه ليس كل السموم مؤدية إلى الموت بالضرورة. وإذا كان أحمد شوقي قد قال في قصيدة شهيرة له إن (من السموم الناقعات (الشديدة) دواء)، فإن خبراء علم السموم أكدوا تلك المعلومة، إذ باتوا يستخدمون بعض أنواع السموم وأخطرها في العلاج. حتى إن سم العقرب يستخدم الآن في علاج بعض أنواع سرطان المخ، ثم إنه ما خطر لي أن أحول اقتراحي إلى مبادرة، ولكنه رأي أردت أن أضعه بين أيدى الذين يهمهم الأمر، خصوصا بعدما لاحظت تزايد أعداد الحائرين الذين باتوا يتشاءمون من الحاضر والمستقبل، حين رأوا التصعيد مستمرا من الجانبين، السلطة والإخوان. ذكرت في الأسبوع الماضي أن خبرة الأشهر الثلاثة الأخيرة دلت على أن قوة السلطة لم تستطع إسكات صوت الإخوان، وأن قوة الفكرة لم تنجح في إسقاط الحكومة، وبنيت على ذلك أن رسالة كل طرف أصبحت مشهرة على الملأ ودعوت الإخوان لأن يكتفوا بذلك وأن يعلنوا وقف أنشطتهم الاحتجاجية بمختلف مظاهرها. نبهت أيضا إلى أن الاستغراق فيما سمي بالحرب ضد الإرهاب يصرف الانتباه عن حروب مصر الحقيقية ضد الفقر والغلاء والبطالة والتخلف، وغير ذلك من العناوين التي تهم عشرات الملايين من المواطنين الذين لا هم موالون أو معارضون ولكنهم يطمحون لحياة كريمة، لأجلها قامت الثورة. ذكرت إلى جانب ذلك أن الانشغال بملف المواجهة مع الإخوان ينبغي ألا ينسينا أن هناك وطنا يجب أن ينال حقه من الاهتمام، وأن يقدم على ملف الإخوان، ثم إن هناك أمة عربية يتأهب كثيرون للانقضاض عليها وإعادة رسم خرائطها، مستثمرين في ذلك غياب مصر وانكفاءها على جراحها وهمومها. ولئن كان تجرع الإخوان للسم يفتح باب الأمل في التعامل مع تلك الملفات، إلا أن الأمر ليس سهلا، حيث دونه عدة عقبات أولاها أنه ليس سهلا على الإخوان أن يتخذوا قرارا من ذلك القبيل لسببين، أحدهما أن قواعد الجماعة مسكونة بالغضب جراء ما لحق بهم من قمع ومهانة وظلم، إضافة إلى أنهم دفعوا ثمنا باهظا في المواجهات التي تمت وقدر عدد ضحاياها بالآلاف، بين قتيل وجريح ومعتقل. وقد ذكرت مصادرهم أن القتلى وحدهم بلغ عددهم ثلاثة آلاف، وارتفع الرقم بعد ذلك إلى خمسة آلاف. وفي تقدير تلك المصادر أن المصابين نحو عشرين ألفا وأن المعتقلين عشرة آلاف، وهي أرقام لم تؤكدها مصادر محايدة، لكن إذا صح نصفها فإنها تبقى كبيرة، حيث تشكل مصدرا لتأجيج الغضب وإذكاء الرغبة في الثأر، ومن ثم رفض الدعوة للتهدئة. مما يعقد الأمر في هذه النقطة أن أغلب قيادات الإخوان إما رهن الاعتقال أو أنها مختفية عن الأنظار بسبب الملاحقة، الأمر الذي يعني أن التواصل بين تلك القيادات وبين القواعد الشبابية إما أنه غير موجود أو أنه غير كافٍ. وهو أمر طرح للمناقشة في المفاوضات التي تمت قبل عيد الفطر، وقيل وقتذاك إنه سيتم إطلاق سراح بعض أولئك القادة، كان الدكتور محمد سعد الكتاني رئيس حزب الحرية والعدالة على رأسهم، وأعلن عن ذلك في بعض الصحف، إلا أن الحسابات الأمنية طغت على التقديرات السياسية، فلم يطلق سراح الرجل، ووجهت إليه تهم سوغت استمرار اعتقاله. الأمر الثاني أن الإخوان ليسوا وحدهم، إذ لا يستطيعون أن ينفردوا باتخاذ قرار من ذلك القبيل، ذلك أنهم جزء مما سمي بتحالف قوى الدفاع عن الشرعية الذي يضم نحو عشرة أحزاب ومجموعات إسلامية وغير إسلامية أخرى، إضافة إلى اتحاد النقابات المهنية ونوادي أعضاء هيئات التدريس بالجامعات واتحاد طلاب جامعة الأزهر. وفي الأجواء الراهنة فإن الصعوبة لا تتمثل فقط في تعذر تواصل قيادات الإخوان مع قواعدهم، ولكنها تكمن أيضا في إمكانية تواصل واتفاق الإخوان مع حلفائهم. خصوصا أني فهمت أن ثمة تعهدا من جانب أعضاء التحالف بألا ينفرد أي طرف باتخاذ قرار فيما يخص العلاقة مع السلطة. ونحن نقلب الأمر لا نستطيع أن نتجاهل التساؤل عن موقف الطرف الآخر ومدى تفاعله مع الخطوة المقترحة؟ ذلك أنه مقابل تحالف أحزاب ومجموعات المعارضة السابق الإشارة إليه، فهناك تحالف الموالاة الذي يضم ثلاثة أطراف، هي: المؤسسة الأمنية التي تضم الجيش والشرطة بالأساس، ومعها كتلة الأحزاب المدنية الليبرالية واليسارية، ثم المنابر الإعلامية المعبرة عن هؤلاء وهؤلاء. والثابت أن الأطراف الثلاثة تقف موقف الضد من الإخوان وحلفائهم، لكن ذلك الضد يتراوح بين خيارات ثلاثة، فثمة تيار استئصالي يدعو إلى اجتثاث الإخوان، على غرار حملة اجتثاث البعث التي أجريت في العراق (فشلت بالمناسبة). وهناك فريق ثانٍ يعتبر الاستئصال متعذرا من الناحية العملية لكنه غير مكترث بالمصالحة أو التواصل في الظروف الراهنة، ويعتبرها من قبيل تضييع الوقت، الأمر الذي يعني تأييد استمرار الحل الأمني حتى إشعار آخر. أما الفريق الثالث فلا يمانع من المصالحة بشرطين، أولهما الانطلاق مما سمي بخريطة الطريق، التي أعلنها الفريق عبد الفتاح السيسي في الثالث من شهر جويلية الماضي، وثانيهما محاسبة الإخوان وتحديد مدى مسؤوليتهم عن حوادث العنف التي وقعت سواء في فترة حكم الرئيس محمد مرسي أو خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. القاسم المشترك بين الثلاثة ليس مقصورا على الانحياز إلى موقف الضد، ولكنه يتمثل أيضا في التعويل على الحل الأمني واستبعاد الحل السياسي إما بصورة مطلقة أو نسبية. وإذا صح ذلك فإنه يمثل عقبة أخرى تعطل التقدم الإيجابي المنشود، على الأقل من حيث أن الحل الأمني يعول على القمع والتصعيد، الأمر الذي من شأنه أن يشكك الطرف الآخر في جدوى الخطوة المقترحة. ذلك أنه إذا لم يكن مدركا أن الأمر لن يختلف سواء استمرت الاحتجاجات أم توقفت، فربما دفعه ذلك إلى عدم التراجع، على الأقل لكى يحافظ على صورته أمام قواعده الجماهيرية وأمام الرأي العام. ما أريد أن أقوله إن هناك عوامل إيجابية إذا توافرت فإنها ستشكل حافزا مشجعا على القبول بتجرع السم، وإذا غيبت فإنها ستبقي الباب مفتوحا لاستمرار التدهور والتصعيد. وفي كل الأحوال فينبغي ألا نستكثر على الطرف المطالب بالتراجع وتعليق التظاهرات والاعتصامات أن يتساءل عن مردود الخطوة التي سيقدم عليها. يقودنا ما سبق إلى طرح السؤال التالي: هل يبادر الإخوان وحلفاؤهم إلى الإعلان من جانبهم عن وقف المظاهرات الاحتجاجية، أم إن عليهم الانتظار حتى تتوافر الأجواء الايجابية التي تسمح لهم بتراجع كريم؟ كأن تصدر السلطة مثلا إشارات تبدي بها الاستعداد للهدنة ووقف إطلاق النار، إذا جاز التعبير. الحل الأمثل كما أتصوره أن تطلق السلطة تلك الإشارات بناء على اتفاق مسبق، ثم يعلن الإخوان عن قرارهم، لكن شواهد الواقع تكاد تستبعد ذلك الحل. أولا لأن الوقت متأخر ومؤشرات التصعيد مستمرة، والثقة باتت منعدمة بحيث إن ما كان ممكنا قبل شهرين في ظل خطوط الاتصال المفتوحة أصبح متعذرا الآن. ثانيا لأن الأبواب مغلقة والجسور مقطوعة على نحو لا يتيح إمكانية التفاهم حول البدائل والخيارات. وثالثا لأن قطار الحل الأمني قطع شوطا بعيدا بدا فيه أن كفة (الصقور) في السلطة هي الأرجح، وذلك ليس واضحا في الإجراءات المتبعة فحسب، ولكنه أشد وضوحا في التعبئة الإعلامية المنحازة إلى التصعيد والاستئصال. رابعا لأن التحالفات العربية الجديدة التي شهدتها الساحة المصرية لا تخفي انحيازها إلى الحل الأمني والاستئصالي الذي تتبناه تلك الدول في سياساتها الداخلية. لا مجال الآن لمناقشة ما إذا كان ذلك موقفا أصيلا للسلطة أم إنه رد فعل لسلوك الإخوان، لأن ذلك لا يغير من النتيجة التي تتلخص في أن المؤسسة الأمنية ليست مستعدة في الوقت الراهن لفكرة الهدنة ولا لمناقشة الخيارات والبدائل. ومن وجهة نظرها فليس أمام الإخوان وحلفائهم إلا أن يسلموا بالأمر الواقع، ويحددوا موقفهم بناء على ذلك وانطلاقا منه. خلاصة الخلاصة في هذه الحالة أنه لا يبقى أمام الإخوان والتحالف سوى أن يعلنوا من جانبهم تجرع السم ووقف المظاهرات الاحتجاجية، وذلك خيار أقبل به وأراهن عليه في حالة واحدة، هي أن يساهم في تجاوز الأزمة وإقالة الوطن من عثرته، لأن المصلحة العليا للوطن ينبغي أن تقدم على حسابات الجماعة ومصلحتها. لن أختلف مع من يقول إن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن الجماعة إذا تبنت موقفا من ذلك القبيل في حين استمرت المؤسسة الأمنية في سياساتها التصعيدية، فإن ذلك سيفتح الأبواب لشرور كثيرة، أبرزها العودة لشيوع العنف والعمل السري. وردي أن الطرف الذي قبل بأن يتجرع السم ارتفاعا فوق جراحه وإعلاء لمصلحة الوطن، يكون في هذه الحالة قد أبرأ ذمته أمام الله وأمام الوطن والتاريخ، وعلى الطرف الآخر أن يتحمل مسؤولية موقفه والتداعيات المترتبة عليه.