تعدّ مهنة النشر ركيزة أي مشروع حضاري، وتوصَف بأنها ذاكرة الصناعات الثقافيّة والمدخل الحضاري لأي تقدم أو رقيّ، ورغم التطور في حركة النشر عربيا، وتنوع وسائله وأدواته، فإنه لا يزال يعاني من مشاكل عامة كبرى، اقتصادية ومهنية وسياسية، تتعدد وتختلف باختلاف البلدان العربية وتفاوت مستوى الثقافة فيها. وتحضر في هذه الصناعة معوقات قديمة جديدة منها مشكلة التوزيع، وعدم تجانس الوسط الثقافي في العالم العربي، إضافة إلى وجود نسبة عالية من الأمية، وكذلك اختلاف قوانين المطبوعات والنشر في البلدان العربية. ثم إن القرصنة والتعدي على حقوق النشر يعدان من المعوقات الكبرى للنشر، وكذلك تكاليف النقل والمعوقات الجمركية، ناهيك عن العوامل الاقتصادية والسياسية. ففي سوريا، التي تتعدد مآسيها من الإنسان إلى الكتاب، تعاني دور النشر جراء الأوضاع التي يعيشها البلد، حيث أوقفت معظم الدور السورية نشاطها أو قلصته إلى حدّ كبير، كما أن هناك دورا انتقلت للعمل من بيروت أو الجزائر أو العراق. ويقول الناشر السوري سراج عثمان صاحب ومدير دار (الزمان) السورية في سياق تعليقه على واقع النشر في ظل الأوضاع الراهنة، إنه بسبب عقود من سيادة النظم الدكتاتورية وانعدام التنمية الاقتصادية مع غياب كامل لسياسات تعليمية وثقافية حقيقية، تلاشت الطبقة الوسطى من المجتمع، وعمّ الفقر وتراجعت القراءة مما ألقى بظلاله على قطاع النشر في العالم العربي ودفعه إلى أوضاع مخيفة على صعيدي الكم والنوع وكذلك الترجمة بالإضافة إلى سلطان الرقابة وارتفاع الضرائب المفروضة. كما انعكست الأوضاع سلبا على العلاقة بين الناشر والمؤلف -حسب عثمان- فغابت عنها الثقة، بدل أن يسودها التفاهم والتعاون على قاعدة القوانين العصرية الناظمة لها وخاصة قانون حقوق الملكية الفكرية الذي وقعت عليه كثير من الدول العربية ولم يجد طريقه إلى التطبيق الصحيح حتى الآن. ووفقا لرئيس اتحاد الناشرين التونسيين النوري عبيد -صاحب دار محمد علي للنشر- يبقى النشر دائما صناعة مهمة، إلا أن عدد القراء في تناقص ليس بسبب النشر الإلكتروني -كما يقول- لأن ذلك علامة تقدم، لكن تناقص القراء -وهو حسبه سبب جوهري في تراجع النشر- يعود أساسا لتلاشي المعنى وطغيان قيم اقتصاد السوق الذي ينمط الفكر والذوق. أمّا مدير النشر في دار (إبداع) القاهرية فتحي المزين فيرى أن واقع النشر في العالم العربي يختلف من دولة إلى أخرى، لكن الأوضاع السياسية الكئيبة ألقت بظلالها السيئة على واقع الأدب إلى جانب عمليات تزوير الكتب الممنهجة، والتي تساهم في إغلاق دور النشر وخسارتها مبالغ طائلة، وانشغال القارئ العادي بشراء الصحف والتركيز على الأخبار السياسة، وعدم توافر جو عام للقراءة، إلى جانب الأزمة المالية للمكتبات الكبرى ودور النشر وإغلاق العديد من الفروع الخاصة بها. أما سمير الجندي المدير العام لدار (الجندي) المقدسيّة -وهي دار النشر الوحيدة المرخصة من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية في القدسالمحتلة- فيؤكد أن واقع عمله يختلف عن واقع عمل أي دار نشر عربية أخرى، باعتباره يعيش في القدس المحتلّة ويعمل بها. ويلخص معاناته في نقاط عدّة وهي: كلفة الطباعة العالية جدّا بالمقارنة مع الدول العربية مما يؤدي إلى ارتفاع سعر الإصدارات قياسا بدور النشر الأخرى، وصعوبة التنقل والتوزيع داخل القدس وخارجها بسبب الحواجز المقامة على مداخل المدينة المقدسة، الأمر الذي يحد من قدرة الدار على التوزيع بشكل جيد داخل فلسطين التاريخية على الرغم من صغر السوق الفلسطينية.