بقلم: عبد الباري عطوان تحوّلت المملكة العربية السعودية بين ليلة وضحاها إلى دولة المفاجآت والصدمات السياسية، فبعد رفض رئيس دبلوماسيتها الأمير سعود الفيصل إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي بسبب ازدواجية المعايير فيها، حسب رأيه، ها هي وزارة الخارجية السعودية التي يتزعمها تصدر بيانا قويا تعلن فيه اعتذارها عن عدم قبول عضويتها في مجلس الأمن الدولي لفشله في حل القضية الفلسطينية، ووقف النزاع السوري، وجعل منطقة الشرق الأوسط آمنة خالية من السلاح النووي. السعودية دولة محافظة في سياساتها، مشهورة بعدم الانفعال في ردودها تجاه القضايا العربية والدولية، وتفضيل التأني وضبط النفس، قبل بلورة مواقفها وكنا ننتظر التعرف على هذه المواقف ثلاثة أيام لمعرفتها ولهذا يتوقف الكثيرون وعلامات التعجب مرسومة على وجوههم أمام قراراتها الأخيرة بمقاطعة الأممالمتحدة ومؤسساتها مثلما حدث، أولا، عندما رفض الأمير الفيصل الصعود إلى منبر الجمعية العامة وإلقاء كلمة بلاده، وثانيا برفض الجلوس في مقعد مجلس الأمن الدولي كدولة غير دائمة العضوية. ولا نعتقد أن دولة أخرى غيرها أقدمت على موقف كهذا في تاريخ مجلس الأمن. الحرب السعودية على الأممالمتحدة الهدف منها توجيه رسائل غضب واضحة إلى كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية بالدرجة الأولى وروسيا بالدرجة العاشرة بعد اتفاقهما الأخير حول نزع أسلحة سورية الكيماوية الذي أوقف، وربما أجل، ضربة عسكرية أمريكية ضد النظام السوري بعد اتهامه باستخدام هذه الأسلحة ضد شعبه حسب التعبير الأمريكي والتشكيك الدولي. السلطات السعودية باتت الداعم الأساسي للمعارضة السورية المسلحة، وتشعر بأن إدارة الرئيس أوباما حليفتها التقليدية، خذلتها مرتين، الأولى عندما أخرجت الرئيس السوري بشار الأسد من عزلته الدولية بالاتفاق الكيماوي المذكور، والثانية عندما تقاربت مع إيران الداعم الرئيسي للرئيس الأسد ماليا وعسكريا وفتحت حوارا معها، دون التشاور مع القيادة السعودية، التي عرفت التقارب المزلزل من النشرات الإخبارية مثلها مثل جميع الدول الأخرى. صحيح أن بيان الخارجية السعودية برر رفض عضوية مجلس الأمن بالمعايير المزدوجة، وإبقاء القضية الفلسطينية دون حل لأكثر من ستين عاما، والفشل في إبقاء المنطقة خالية من الأسلحة النووية، وعدم تسوية النزاع في سورية بإطاحة نظام الأسد ولكن الصحيح أيضا أن هذه المعايير المزدوجة كانت موجودة منذ تأسيس المنظمة الدولية، فما هو الجديد؟ الجديد وباختصار شديد هو التراجع عن ضرب سورية، فلو أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا ضد سورية وفق البند السابع من ميثاق المنظمة الدولية الذي يجيز استخدام القوة لقبلت السعودية بالعضوية واعتبرتها إنجازا. هذا الموقف السعودي القوي والجريء لو جرى اتخاذه قبل ثلاثة أعوام، وبالتحديد قبل اشتعال فتيل الحرب في سورية، لفضح هذه المعايير المزدوجة بطريقة أكثر فاعلية، وحظي باهتمام أكبر في الأوساط العربية والإسلامية، ولكن كونه جاء كرد فعل على الخذلان الأمريكي في سورية وإيران فإن هذا قلل من قوته على أهميته. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عما إذا كانت القيادة السعودية ستواصل مواقفها (الصقورية) هذه في الملف الفلسطيني، حيث تترنح المفاوضات ويتغول الاستيطان الإسرائيلي وتتسع هوة الانقسام بين حماس والسلطة في رام الله، وكذلك في الموقف من امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية، واقتراب إيران من هدفها في هذا الإطار، والإصرار على نزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة كلها دون أي استثناء لأحد، إلى جانب اهتمامها بالملف السوري، أم أن موقفها الحالي مؤقت وناتج عن فورة غضب من أمريكا؟ السعودية تستطيع، بما تملكه من ثقل مالي وسياسي وديني وعلاقات دولية أن تكون لاعبا رئيسيا في جميع هذه الملفات المزمنة على أرفف المنظمة الدولية لسنوات لو أرادت، وليس في الملف السوري فقط، ولكن الملف الأخير بات هاجسها الأكبر، في إطار صراعها المعلن على النفوذ والقيادة مع إيران العدو الأكبر بالنسبة إليها ودول خليجية أخرى، وهناك تقديرات غير مؤكدة تقول إنها أنفقت أكثر من خمسة مليارات دولار حتى الآن لتمويل المعارضة السورية وتسليحها، تماما مثلما فعلت في أفغانستان أيام الاحتلال السوفييتي، ووضعت رجلها أحمد الجربا على رأس الائتلاف الوطني السوري، وأسست جيش الإسلام من الجماعات المقاتلة الموالية لها. لا نعتقد أن مقاطعة المملكة العربية السعودية للأمم المتحدة ومؤسساتها التي تزداد شراسة يوما بعد يوم، رغم مشروعية أسبابها ومبرراتها، الأسلوب الأمثل لأننا نرى أن التواجد بقوة في المنظمة الدولية على عجزها، واستغلال مؤسساتها ومنابرها من أجل الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية، والتصدي للهيمنتين الأمريكية والإسرائيلية عليها، وتوجيه قراراتها وبما يخدم سياسات التوسع الاستيطاني وتقسيم المسجد الأقصى بل هدمه أيضا. فهذه مواقف، وإذا ما جرى تبنيها ستوحد العرب والمسلمين ونسبة كبيرة من العالم الثالث خلفها لأنها قضايا غير خلافية.