بقلم: فهمي هويدي* مشكلة مصر الآن أنها تتحرك في مسار خارج التاريخ، ويُخشى أن تجر العالم العربي وراءها في نهاية المطاف. من يطالع الصحف المصرية هذه الأيام ويتابع تصريحات السياسيين التي باتت تتنافس في مغازلة المؤسسة العسكرية والمزايدة على دورها، ربما لا يخطر على باله أن عناوين الصحف وتعليقات محرريها وتصريحات أهل السياسة تكاد تكون صورة طبق الأصل مما كان يتردد في تركيا قبل نصف قرن تقريبا. ذلك أن أي قارئ لتاريخ عسكرة المجتمع التركي يلاحظ أن الأصوات الداعية إلى تدخل القوات المسلحة لإنقاذ البلد من الفوضى والانهيار كانت تتردد عالية عند كل أزمة سياسية. وفي ظل هشاشة الوضع السياسي وضعفه فإن الجميع كانوا يعتبرون الجيش هو المخلّص والمنقذ، وقد كان له رصيده الذي يسمح له بذلك، لأنه أنقذ البلد من الاحتلال إبان الحرب العالمية الأولى، وهو الذي أسس الجمهورية، وقاد عملية تحديث الدولة، وهي الخلفية التي ظلت توظف لصالح عسكرة المجتمع منذ تأسيس الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي، ولنحو ثمانين سنة لاحقة بعد ذلك. السيناريو المكرر والمحفوظ كانت فصوله تتابع على النحو التالي: الأحزاب الضعيفة تفشل في إدارة الدولة، ترتفع الأصوات داعية إلى قيام الجيش بدور المنقذ، الجيش يقدم إنذارا للحكومة لكي تتحمل مسؤوليتها، بعد الإنذار يعلن الجيش الانقلاب ويتولى إدارة البلاد وترتيب الأوضاع المنفلتة. ولا تكاد تستمر بضع سنوات (عشر في الأغلب) حتى تتكرر الأزمة وتتردد الأصوات والدعوات ذاتها، ثم يتقدم الجيش بإنذاره الذي يعقبه التدخل لاستلام السلطة باعتباره المؤسسة الوحيدة المنضبطة والمتماسكة، والتي تمتلك قوة السلاح على الأرض. وهذا ما تكرر مع الانقلابات التي توالت عام 1960، ثم عام 1971 وعام 1980، وصولا إلى انقلاب عام 1997 الذي وصف بأنه انقلاب ناعم، أو ما بعد حداثي. وكانت نقطة الانطلاق في كل تلك الانقلابات أن الجيش اعتبر نفسه مسؤولا عن حماية مبادئ الجمهورية التركية إلى جانب وظيفته في حماية الوطن. وبمقتضى تلك المسؤولية فإنه فرض نفسه وصيا على المجتمع، وقد قنن دستور عام 1982 تلك الوصاية التي باشرها مجلس الأمن الوطني الذي شكل مكاتب استشارية لمختلف شؤون البلاد العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وغيرها. وقد جرى استنفار المؤسسة العسكرية بعد انتخابات عام 1995 التي حققت فوزا نسبيا لحزب الرفاه ذي الخلفية الإسلامية، مما أدى إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم، رأسها آنذاك زعيم الرفاه نجم الدين أربكان، فردت القيادة العسكرية باستنهاض أصابعها المنتشرة في مفاصل الدولة وسلطة القرار، إلى أن أجبرت أربكان على الاستقالة من منصبه في عام 1997. الرياح التي تهب على مصر منذ عزل محمد مرسي تمضي في ذات الاتجاه المعاكس للتاريخ، ذلك أنه بعد إنهاء مهمة المجلس العسكري في عام 2012، وانتعاش الآمال التي علقت على إمكانية التحول الديمقراطي وإقامة مؤسسات إدارة المجتمع، تبدد ذلك كله في الثالث من جويلية الماضي، بعدما تم عزل الرئيس المنتخب، وجمِّد الدستور وحُل مجلس الشورى وغيره من المجالس التي كان قد تم تشكيلها، وبدا الاتجاه واضحا في المراهنة على المؤسسة العسكرية وتعزيز قوة الدولة في مواجهة المجتمع. وفي هذه الأجواء جرى الإعداد لاستصدار دستور جديد من خلال مجموعة مختارة وليست منتخبة، وأصبحت المؤسسة العسكرية بحكم الأمر الواقع هي مصدر السلطات وصاحبة القرار في تشكيل الوضع المستجد. وفي ذلك فإنها لم تفرض نفسها على المجتمع ولكن الذي حدث أن خطاها لقيت تأييدا وترحيبا من النخب والقوى المدنية باختلاف توجهاتها، الليبرالية والقومية واليسارية، وكانت وسائل الإعلام هي القوة الضاربة، التي نجحت في "تصنيع الموافقة" على حد تعبير تشومسكي، حين استثمرت إخفاقات حكم محمد مرسي في تعبئة الجماهير وتحريضها ضد نظامه، ووقوفها بالتالي إلى جانب معسكر المراهنة على المؤسسة العسكرية. في ظل الوضع المستجد أصبح الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة هو مرشح رئاسة الجمهورية الذي التفت حوله القوى المدنية، واكتسب حضور القوات المسلحة في اللجنة المعنية بوضع الدستور أهمية خاصة، حيث أثير لغط حول حصانة وزير الدفاع واشتراط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيينه، الأمر الذي يسحب تلك السلطة من رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. وكحل وسط اقترحت فكرة تطبيق ذلك المبدأ خلال فترة انتقالية تتراوح بين عشر واثنتي عشرة سنة، وجرى التمسك بمبدأ محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، التي هي ليست محاكم مستقلة أصلا، لكنها خاضعة لأمر وزير الدفاع. في هذه الأجواء قرأنا في جريدة "الشروق" (عدد 5/10) تصريحات مهمة لمصدر عسكري ذكر رئيس تحرير الجريدة أنه قريب من المؤسسة العسكرية، وركز في تصريحاته على ما يلى: - إن خبرة السنوات الأخيرة أثبتت للجميع أن الجيش هو القوة الوحيدة الموجودة على أرض مصر في الوقت الراهن ولفترة مقبلة، وذلك بسبب ضعف معظم الأحزاب السياسية المدنية، وبالتالي لابد أن نعطي هذا الجيش أدوات تساعده على حفظ البلاد، كي لا تصبح فريسة لأي تنظيم أو جماعة منظمة تريد تغيير هوية مصر بأكملها. - إن ظروف مصر لا تسمح بتسليم الجيش لرئيس لا نعرفه، والمنطقي ألا يفقد الشعب السلاح الذي يملكه وهو جيشه الوطني، ولا نريد أن نواجه احتمال أن يصل شخص متنكر في زي مدني إلى الرئاسة، ويعين من يشاء وزيرا للدفاع، الأمر الذي قد ينتهي بتغيير هوية الجيش، لأن ذلك الوزير سيتولى تعيين قادة الأفرع والمناطق والجيوش. وهو ما قد يصل بنا إلى تغيير وضع القوات المسلحة لكي تتحول من مؤسسة وطنية جامعة إلى مليشيا خاصة لجماعة أو حزب. لم تذكر جريدة "الشروق" أن المصدر العسكري يتحدث باسم القوات المسلحة، لكنه عند الحد الأدنى يعبر عن مدرسة أو تيار داخل القوات المسلحة يعتبر أن الجيش هو القوة الوحيدة والسلطة الأعلى في الساحة السياسية المصرية، ثم من موقفه المعارض لتجربة الإخوان وكل ما يشغله هو تجنب تكرار تلك التجربة، بدعوى أنها يمكن أن تؤثر على هوية القوات المسلحة، أما هوية الوطن ومصالحه العليا فهي مسألة في المرتبة التالية من الأهمية. حين يستمر تمدد المؤسسة العسكرية في الفراغ السياسي الراهن ويتصاعد دورها على نحو لم تعد تخطئه عين، فذلك يعني أن مصر صارت تتحرك خارج مجرى التاريخ. عند الحد الأدنى فهو يعني أن حلم الدولة المدنية الديمقراطية الذي تطلعت إليه ثورة 25 يناير في حالة تراجع وانحسار بحيث لا تكاد توحي المقدمات الملموسة بإمكانية تحقيق شيء منه في الأجل المنظور. إن البناء الذي تجري إقامته الآن في مصر يعاني من خلل فادح في موازين القوة وفي الرؤى، ذلك أنه يتم في ظل قوة وهيمنة المؤسسة العسكرية، وفي ظل مؤسسات مختارة من فئات لا يجمع بينها سوى رفض الإخوان ومخاصمتهم، وهؤلاء يمثلون جماعات سياسية هشة لا جمهور لها، حتى باتت تستمد شرعيتها من الاستناد إلى قوة المؤسسة العسكرية والتعلق بأهدابها. وذلك يمثل جوهر الأزمة السياسية في مصر الراهنة، ذلك أن هذا البلد الكبير لا يستطيع أن يقيم بناءه على أساس من تحالف الليبراليين مع العسكر، ولا يستطيع أن يقيم مشروعه على مجرد فكرة إقصاء الإخوان ومواصلة الحرب ضد الإرهاب، وهو ما لاحظته تحليلات غربية عدة ما فتئت تتحدث عن أن مصر تتجه نحو المجهول بعدما تراجع وزنها السياسي وما عاد لها دور يُذكر في الشأن الإقليمي. ليس ذلك فحسب، ولكن مصر في ضعفها تجد نفسها مستسلمة لمخططات التعاون الأمني وغير الأمني مع إسرائيل خصوصا أن المؤسسة العسكرية تعد أبرز أركان اتفاقية كامب ديفيد. وربما دفعها المأزق الدولي الذي تواجهه إلى مزيد من التقارب والتفاعل مع إسرائيل، التي يُعد النظام الحالي طرفا مريحا ومطمئنا لها، بعكس نظام الرئيس مرسي الذي كانت تتوجس منه ولا تطمئن إليه. هذا الضعف ذاته المقترن بالحيرة والبلبلة التي تعانى منها الرؤية الإستراتيجية للوضع المستجد، دفع مصر إلى الارتماء في أحضان تحالفات عربية مخاصمة للربيع في مجمله ولها ارتباطاتها وولاءاتها التي تتعارض مع أهداف الثورة وأشواق الجماهير العربية. وحين يحدث ذلك في حين تتعرض المنطقة العربية لهزات كبرى من شأنها إعادة رسم خرائطها وإخضاعها لمشروعات التفتيت والتقسيم، فإن ذلك يكشف عن فداحة الثمن الذي يمكن أن يدفعه العالم العربي جراء الهزة والانتكاسة التي حلت بمصر. ليست الصورة محبطة بالكامل، لأن الصدمات والهزات التي تعاني منها أنظمة الربيع العربي تكاد تكون محصورة في الجزء الظاهر من تجليات ذلك الربيع، لكن هناك جزءا غاطسا منه لم يفقد حيويته بعد. وكنت ممن سبق لهم القول إن الربيع في حقيقته هو تحول تاريخي في بنية الإنسان العربي الذي بات ينشد التغيير وأعلن رفضه للظلم السياسي والاجتماعي الذي فرضته عليه الأنظمة. وهذا الذي عبرت عنه سجله تقرير لصحيفة نيويورك تايمز في تقرير نشرته في 18 أكتوبر الحالي تحدث عن مظاهر الحراك الجماهيري المسكوت عليه الذي تشهده دول الخليج العربي جميعها، وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية. وقد كتب التقرير أحد أساتذة العلوم السياسية في جامعة دورهام البريطانية، كريستوفر دافيدسون، وتخير له عنوانا دالا هو: نهاية المشيخات. إن مصر إذ تخسر نفسها بأدائها الراهن، فإنها قد تسحب معها العالم العربي أيضا، لكنها وهي تقف خارج مجرى التاريخ، لن تستطيع أن توقف عجلة التاريخ، وتلك من سُنَن الله في الكون، التي عبر عنها النص القرآني القائل "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم" (الآية 38 من سورة محمد).