امتازت العقود الأخيرة من عمر الأمة الإسلامية بظهور الجماعات الحركية الإسلامية. وقد كان هذا الظهور نتيجة لتقهقر واضح لمؤشر التدين، بعد موجة الاستعمار التي وصمت البلدان الإسلامية. غير أن هذه الجماعات الحركية، اعتمدت في عملها كثيرا من إفرازات الفكر الغربي مما هو من قبيل مناهج التخطيط والمؤشرات الإحصائية والتقويم. وقد طغى الجانب الفكري، وعمل على تقريب الفجوة بين العقل المؤمن والعقل الكافر، بالقدر الذي لم يعد المسلم العامي يجد فرقا كبيرا (من جهة التنظير ومن جهة التطبيق معا) بين الإسلام وغيره من الأديان، إلا ما كان مما يُمكن أن يُدرج ضمن (إيمان العجائز) الذي لا يستند إلى تحليل، وهذا بالنسبة إلى غيره نادر، أو مطمور تحت ركام مُخلفاتٍ فكرية متناثرة في جل القلوب. وعلى ضوء ما سبق، فإن صورة الإسلام قد تغيرت، من غير أن يشعر المسلمون الذين لا علم لهم بما يخرج عن حقبتهم الزمنية إلا لماما. نقول هذا لأن العلم بمختلف المراحل التاريخية يُعطي الناظر قدرة على المقارنة بين المتغيرات فيها، وهو ما يغيب عمن يعيش تحت هيمنة حقبته من كل جانب. ولو أن الناس قارنوا بين تدين اليوم وتدين أمس، لوجدوا اختلافا كبيرا، يعود في أغلبه إلى جعل الدين تحت حكم الفكر، في حين أن الدين مطلق من وجه كونه إلهيَّ المصدر. ولقد أسهم الفقهاء بسبب كونهم يعتمدون الفكر في علمهم، في كثير مما طرأ على التديّن العام دون أن يشعروا في كثير من الأحيان، ظنا منهم أن عمل الفكر عام في الدين. وهذا غلط كبير، ستكون له تبعات خطيرة على مسار الأمة كله. ولا يخفى أن هيمنة الفكر في الدين، ستخرج به -ولو جزئيا- من حقيقة الدين إلى الأيديولوجيا الدينية. وكل ما عرفه التدين من تشوّهات أدت إلى صبغ زماننا بما يسمى (حقا أو باطلا) بالإرهاب الديني، الذي يعتمد العنف المادي في غالبيته، هو من أثر الأيديولوجيا الدينية لا من أثر الدين. والمصيبة أن الناس سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، لا يُميّزون بين الأمرين، مما جعل هذه النقائص تُنسب إلى الإسلام وهم ينظرون. المسلمون ومنهم جل العلماء، عاجزون عن توضيح الفرق لتخليص الناس من الحيرة التي أصابتهم من جراء هذا الخلط المفهومي السائد. وهو ما أدى إلى اعتماد تفسيرات شخصية في الغالب، يتلمس كل مسلم بها طريقه وسط الغموض والضبابية التي تميّز عصور الفتن. أما الإسلام في أصالته، فحركته الفردية والجماعية ذاتية، لا تحتاج منا تعمّلا. وهذه الحركية الذاتية، هي التي انبنى عليها المجتمع الأول للصحابة رضي الله عنهم، وهي التي أدت إلى الفتوحات التي أوصلت الإسلام إلى أقاصي الأرض. فأما الحركية الفردية، فهي ما يتعلق بسلوك الطريق إلى الله، مما يجعل أحكام مقامات الطريق يختلف بعضها عن بعض. ولولا هذه الحركة، ما تحقق قرب من الله لأحد من العباد أبدا. وأما الحركية الجماعية المتعلقة بالجماعة أو بالأمة، فهي نتيجة لمدى تواجد الحركية الفردية فيها، ولمنزلة اعتبارها لدى المجتمع المسلم ضمن ترتيبات أولوياته وتراتب مراكز قيادته بجميع المعاني. وعلى هذا، فإن أقرب سبيل للتفريق بين الأيديولوجيا الدينية وبين الدين، هو النظر إلى نوع الحركة. فإن كانت الحركة مبنية على فكر بشري، فهي الأيديولوجيا التي ابتليت بها الأمة بسبب تأثرها بأساليب العمل الكفرية، وإن كانت الحركة ذاتية، فهو الدين الذي غابت أصالته في زماننا واندرست. وكما أن تشخيص الداء لا بد أن يسبق طور العلاج، فكذلك لا بد للأمة أن تميّز الفرق بين حركة الإسلام والإسلام الحركي، إن هي أرادت أن تعود إليها عزتها السابقة، ومكانتها اللائقة بها عند ربها.