أستاذ جامعي صديق يجتهد لإكمال أطروحة الدكتوراه والانخراط بشكل أكثر حيوية وجدّية في التدريس والبحث العلمي والنشاطات الجامعية.. قابلته بعد عودته من أول زيارة له شبه مطولة قادته إلى "بلاد الجن والملائكة".. وكان سعيدا بتلك "الرحلة العلمية" فقد بدأ يمشي خطواته الأولى في تعلم لغة "فولتير". كانت المقابلة في بيت زميل صحفي متألق عائد من موسكو حيث يعمل مذيعا في قناة تلفزيونية روسية ناطقة بالعربية.. وقد أخبرنا الزميل أنه صار في مرحلة "الحبو" في التخاطب والتعامل باللغة الروسية.. وطبيعي أن يتطرق الحديث إلى اللغات وأهمية تعلّمها والدور الريادي الذي لعبته الترجمة في نهضة الأمم عبر مختلف العصور، وما تقوم به الترجمة هذه الأيام من نقل سريع وكثيف للعلوم والثقافات والآداب وتسهيل تبادلها بين مختلف الأمم والشعوب لتصير المعرفة مشاعة للجميع إلا من أبى وتقوقع ووضع على نفسه القيود وأحكم حولها السدود. وبشعور، أو دون شعور، وصل الحديث إلى اللغة الفرنسية والدور الذي تلعبه هذه الأيام في الجزائر.. دور تختلف النخبة حوله بين من يراه إيجابيا مطلقا، حتى أن تلك اللغة "غنيمة حرب" على حد تعبير أحدهم، وينبغي طبعا، طبقا لهذا الرأي، الاستفادة القصوى من مال الغنيمة وإن كنا أغنياء وأصحاب أموال طائلة قبل هذه الغنيمة وبعدها.. وبين من يرى الأمر حالة شاذة في تاريخ الأمم الشريفة القوية التي قدمت الغالي والنفيس وهي تقاتل لأجل حريتها، كل حريتها بما في ذلك الحرية الثقافية واللغوية. قال صديقنا، الأستاذ الجامعي، إنه حريص على إتقان الفرنسية بعد زيارته لفرنسا، فباركْنا فيه وضوح الهدف بالنسبة لباحث مثله، وعلوّ الهمّة التي تدفعه إلى إتقان لغة ثانية، إلى جانب اللغة الأم، وهي صفة ملازمة لأغلب الباحثين الجادّين الذين تركوا بصمات واضحة ومعالم بارزة في مجال التحقيق العلمي والبحوث والدراسات الإنسانية. لكن صديقنا أردف كلامه بما اعتبرته صفعة موجعة عندما قال: إن الفرنسية هي مفتاح الوصول إلى المناصب العليا في الجزائر هذه الأيام. قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، أبعد هذه السنوات الطويلة من الاستقلال ما زالت الفرنسية هي المفتاح السحري، فمتى نتحرر ثقافيا إذن؟ هل نحن في حاجة إلى قرن وثلث قرن لنتحرر من الاستعمار اللغوي الثقافي كما تحررنا من الاستعمار العسكري الاستيطاني؟.. إن كان هذا الأمر حقيقة فتلك مصيبة ليس أعظم منها إلا فناء الأمة الجزائرية عن آخرها، وإن كان مجرد أقوال مسمومة يحاول اللوبي الفرنكفوني أن يجعلها واقعا ملموسا، فحريّ بالنخبة الوطنية الواعية أن تمجّها وتنزّه ألسنتها عن مثل هذا اللغو القبيح. إن أولى خطوات التغيير هي الإحساس بالمشكلة، والسؤال المهم، خاصة ونحن نحي الذكرى السابعة والأربعين لعيد الاستقلال: هل ينتابنا دائما إحساس قوي متجدد بمأساة اللغة العربية بين أبنائها، وخصوصا بين أولئك الذين يُفترض أنهم دافعوا عنها يوما ما وهم يحملون السلاح ضد المستعمر الفرنسي الذي جعل القضاء على اللغة العربية على قمة أولوياته؟ يجب أن نحس بفداحة الأخطاء ونشعر بعظم الجرم في حق اللغة عندما نتابع التلفاز أو الإذاعة وتتكرر على مسامعنا أخطاء لغوية ما أسهل تجنبها لو توفر الوعي بأهمية احترام اللغة.. يجب أن نحس بتأنيب الضمير على تقصيرنا جمعيا ونحن نقرأ الصحف وهي تعجّ بذلك الحجم الكبير من الأخطاء النحوية والتعبيرية، والإحساس ذاته مطلوب ونحن نقرأ لوحات الدكاكين وإرشادات الشوارع والطرق وغيرها، ونحن نعاين أخطاء الرسائل الرسمية وإعلانات الإدارات والبلديات وغيرها.. ويكون الإحساس الأعمق بالمأساة مطلوب بشدة عندما نحضر، أو نسمع عن اجتماعات رسمية يتم التداول فيها باللغة الفرنسية، ويكون المتحدث فيها بلغة البلاد الرسمية غريبا وربما طريدا أيضا. حضر المهاتما غاندي مؤتمرا حكوميا رسميا لدعم بريطانيا العظمي في الحرب العالمية الأولى، وكان المؤتمر برئاسة نائب الملك (الحاكم البريطاني للهند آنذاك)، وقد طلب غاندي من نائب الملك السماح له بالتحدث باللغة الهندية خلال إلقاء كلمته، فوافق الرجل على ذلك بشرط أن يتحدث باللغة الإنجليزية أيضا، وكانت اللغة الرسمية للهند طوال فترة الاستعمار البريطاني. يقول غاندي إن كثيرين قدموا له التهاني بعد الكلمة وقالوا له إن هذه أول مرة، على ما تستحضر الذواكر الحية، يتحدث فيها امرؤ باللسان الهندوستاني في اجتماع كهذا. ويواصل غاندي في سيرته الذاتية الموسومة ب: (قصة تجاربي مع الحقيقة) فيقول: "وكان في التهنئات الموجهة إلي واكتشافي أني كنت أول من تكلم بالهندوستانية في اجتماع برئاسة نائب الملك، أقول كان في تلك التهنئات وذلك الاكتشاف ما جرح كبريائي الوطنية، لقد شعرت وكأني أتقلص في جلدي، فيا لها من فاجعة أن تكون لغة البلاد محرمة في اجتماعات تعقد في البلاد من أجل عمل يتصل بالبلاد، وأن يكون خطاب يلقيه بالهندوستانية شخص ضال مثلي مسألة تستحق التهنئة! إن أحداثا مثل هذه لتذكرنا بالدرك الخفيض الذي تردّينا فيه". وفي الجزائر تتكرر الصورة بشكل مشابه في كثير من الأحيان وذلك عندما نفرح بمسؤول عالي المستوى يتحدث عربية سليمة بليغة، أو يقف موقفا بطوليا ضد هيمنة اللغة الفرنسية في الإدارات الحكومية.. إنها فاجعة، على حد تعبير غاندي، لأن جزائر الشهداء ما كان ينبغي لها أن ترى بأم عينيها كل هذا الهوان، فالأصل في القضايا المصيرية مثل اللغة والهوية الثقافية أن تكون محسومة معلومة بعد شهور معدودة من عمر الاستقلال، لا أن تظل محلّ جدل ونحن على أعتاب العيد الذهبي لاستعادة السيادة الوطنية.