ما الذي يجعل نخبة سياسية ما تتحوّل إلى جملة مفيدة في أحاديث الأمة، وتصير بسمة جميلة ُتزيِّن كل الأفواه فيها؟ هل يعود ذلك إلى اتساع جغرافيتها أو تاريخها، أم إلى انتهاجها الجدية في العمل، والصدق في الأداء، والبراغماتية في الطرح، والصبر في التحاور، مع الانحياز إلى كل ذلك وحده في معالجة القضايا المصيرية؟ قد تكون القلة القليلة فقط، هي التي راهنت على نجاح مسعى القطريين، في إعادة جمع الإخوة الفرقاء، بعدما ضاقت بهم كل أماكن اجتماعاتهم الفسيحة، التي لم تعد تتسع إلى أكثر من وجهة نظر، وتقلصت بهم ساحاتهم وسواحلهم وكورنيشهم، فاحتكموا للسلاح، وأخطؤوا مرة أخرى وجهة التصويب، أما الأكثرية الافتراضية فقد راهنت على حجة القوة الأمريكي التي أعلنت أنها تشن حرب الديمقراطية بإعادة تشكيل خارطة المنطقة ضمن مخطط الفوضى الخلاقة في حسم الصراع الذي تبدو فيه المقاومة صوتا نشازا بين من يؤمن بلبنان التابع، ولو أدت تبعيته إلى استباحته واقتطاع بعض أجزائه ، وبين َمن يعتقد بلبنان الحر السيّد ، الذي أفرز مقاومة رفعت هامة العرب والمسلمين وكل أحرار العالم في زمن الركوع المُعوْلَم. إن المشاكل التي تدور في فلكها المجموعة العربية تكاد تصبح أحد القواسم المشتركة بين دولها، وقد اتخذت هذه المشاكل شكلا لولبيا مسَّ كثيرا من الدول وأدخلها في مواجهات سرية أو علنية، إما مع جيرانها أو أشقائها أو أصدقائها أو مع مواطنيها مما خلق حالة من التشنج أفرزت شللا ضرب منظومة الفكر العربية وأحالها إلى كمٍّ هشٍّ يسقط مع أبسط هزة، حتى أصبحنا أمة تُسرِع الخطى ولكن إلى الخلف، ونجد آثار هذه الحالة في الراهن العربي الرسمي منذ عشريتين تقريبا حتى جاء من أقصى الدوحة فتية - مع نهاية القرن الماضي- أداروا الحكم بحكمة الشيوخ واحتكموا إلى العقل الذي اعتمد المنطق والبراغماتية في تحقيق المنفعة العامة سواء كانت وطنية أو قومية، وكانت خطوتهم الأخيرة أشبه ما تكون بصحوة تجتاح الضمير العربي فتعيد الوعي بالذات بعد فقدان للذاكرة. لم يكن قطر بعيدا عن الأضواء ولا غريبا عن الساحة الدولية قبل إنهاء معضلة لبنان، فقد افتك لنفسه مكانا بارزا بين العمالقة منذ أرسل قناة "الجزيرة" التي قلت في وقت سابق عنها إنها حوّلته من قطعة أرض جدباء يكاد البحر يجرها من على شواطئ الخليج الذي تتنازع العرب والفرس على تسميته وتسكنه أمريكا أو تسحبها الجغرافيا السياسية إلى الوراء فتبتلعها إلى إمبراطورية تهتز لها كبريات الدول، وراحت بها شمعة قطر تتحول شيئا فشيئا إلى منارة تضيء الفضاء الإعلامي العربي المعتم، وقد صار تقطبا إعلاميا يحسب له الكبار ألف حساب، ولكن قطر مع كل ذلك ظل ينتهج إستراتيجية حكيمة في تعويض نقص الأرض بزيادة الوزن السياسي عربيا أو إقليميا أو دوليا حتى وإن تواضع أميره وهو يرد على الذين هنئوه بنجاحه في تجاوز تضميد الجراح اللبنانية إلى حالة الشفاء ورعاية فترة النقاهة بقوله إن ما تم في الدوحة ما هو إلا عمل مشترك لكل العرب، ونجاح للنظام الرسمي العربي أو حتى لو قلّل وزيره الأول ورئيس دبلوماسيته من جحم ما قامت به الدوحة، وأعاد نجاح مسعاها إلى الجهود العربية الكبيرة خاصة للجار الغربي الكبير والشقيق اللدود حتى لا تثار حفيظة الإخوة الكبار، فقد يدفعهم حسدهم إلى ارتكاب حماقة تزيد في توسيع الشرخ القائم أصلا مجانا بين مجموع الدول العربية إلى درجة أنها ولّدت أحقادا لا مبرر لها بين الشعوب، زادت في تأخر الوحدة الحالمة بها الأمة على مر تاريخ نضالها وكفاحها المشترك. إذن نجح قطر الصغير فاتسعت مساحته على ِقلّتها وفشل الكبار فضاقت بهم أرضهم على اتساعها، وعاد لبنان إلى رشده بعدما تيقّن أنه أبحر وحيدا في المجهول مع الأهوال ولم تغفُ العيون التي احتضنت المحادثات ورعتها إلا بعد أن وقّعت القيادة القطرية، على شهادة ميلاد أول رئيس لبناني استلم مقاليد الحكم في الألفية الثالثة وبحضور حشد عربي وعالمي لم يشهده لبنان لو كان الظرف عاديا ولو لم يكن رئيسه استثنائيا، ولم يهنأ لأصحاب المبادرة بال، إلا بعد أن تأكدوا أن النواب اللبنانيين قالت أكثريتهم الكثيرة، نعم للنزول على شاطئ الأمان، بعد كل العواصف التي أذهل سكونها المفاجئ، حمّالي حطب الفتنة فأقعدهم عن فعل أي شيء ُيعكر صفو ذلك السكون، مما جعل الأمير القطري يجزم أن لبنان هو المنتصر في حرب الإخوة الفرقاء، وأن الفتنة هي التي انهزمت عقب انتهاء المواجهات، وقد أعطت تجربة الدوحة مع مشكلة لبنان مفهوما جديدا إيجابيا للانفلات من الأزمات، قد يسميه السياسيون الظاهرة القطرية التي ُتختصَر في إحداث الصدمة لكل الفرقاء، بجمعهم وجها لوجه في قاعة مغلقة وإسقاط أقنعتهم جميعا، فلا يخرجون إلا متوافقين ولو على الحدود الدنيا بينهم، ويمكن للدولة الواحدة أن تلجأ إلى هذه الوصفة السياسية للقضاء على ثغور التوتر المنتشرة هنا وهناك في زواياها، كما يمكن لدولتين أو أكثر أن تستعمل هذه الطريقة لحل المشاكل التي تحُول بينها وبين الوحدة المتأخرة. ولا يسعنا في الأخير- كمواطنين عرب ومسلمين وأحرار- إلا أن نقدم تحية إكبار لأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وتحية تقدير إلى رئيس حكومته ومسؤول دبلوماسيته الشيخ أحمد بن جاسم بن جبر آل ثاني على صنيعهما القومي الكبير في إرجاع الفرحة للأمة العربية من خلال استعادة لبنان وتسليمه إلى أبنائه كلهم، وتثمين جهده في المقاومة والديمقراطية اللتين تعتبران منتوجا عربيا بعلامة لبنانية مسجلة في زمن السقوط... [email protected]