»كان أسوأ العهود، وكان أحسنها في الوقت نفسه. وكان عصر حكمةوعصر جنون أيضا!« ذلكم هو الوصف أو الحكم الذي أصدره الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز )1812-1870(، في مستهل روايته)قصة مدينتين( التي رصد فيها أحداث الثورة الفرنسية وما يحدث من اضطرابات في المجتمع الإنجليزي. ولعله كان يتصور أن بلده محافظ، يغالي في المحافظة بحكم أنه لم يتخلص من الحكم الملكي، وذهب الظن به إلى أن فرنسا أكثر تطورا منه بحكم أنها تخلصت أو عي أرادت التخلص من سيطرة الملكية والنبلاء وأهل الإقطاع. غير أن الثورة الفرنسية أمضت ما يقارب المائة سنة قبل أن تتجه نحو الطريق الأسلم، أي الحكم الجمهوري، في حين أن إنجلترا بقيت على ملكيتها الدستورية إلى يومنا هذا. وليس هناك فرق بين هذين البلدين، إذ أن فرنسا تحولت إلى قوة استعمارية طاغية بالرغم من أن ثورتها قامت على شعار الحرية والإخاء والمساواة، في حين أن بريطانيا لم تنج هي الأخرى من وطأة الوجهة التي اتخذتها، وهي السيطرة الاستعمارية على نصف العالم كله بالرغم من أنها كانت أول من عمد إلى إدخال النهج الديموقراطي في برلمانها العتيد أيام حكم الثائر »كرومويل«. ليس لي بد من أن أعقد المقارنة بين الوصف الذي أطلقه »ديكنز« على عصره والوضع الاجتماعي السياسي الذي نعيشه في هذا لعالم العربي الإسلامي. إذ ما الفائدة المرتجاة من المطالعة في كتب الأدب العالمي إن لم يكن هناك شيء إيجابي أجنيه من ورائها؟ استرجعت ما حدث في هذا العالم الذي أنتمي إليه منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، فوجدت أنه إذا كان قد تحرر من ربقة الاستعمار، فإنه وقع بين مخالب حكام مستبدين جهلة، ووقع في الوقت نفسه ضحية لمناورات وأحابيل القوى الاستعمارية السابقة. في الهند، لم ينج محمد علي جناح من هذه اللعبة الخبيثة، فقسم بلده قسمين، يبعد الواحد منهما عن الآخر مسافة ألف كيلومتر. وفي البلاد العربية انقسمت بعض البلدان قسمين، أحدهما شمالي وثانيهما جنوبي، وانقسمت فلسطين إلى ثلاثة أو أربعة أقسام، وما زالت إلى يومنا هذا تعيش ثقل هذا الانشطار الذي انطلى عليها بتأثير من الصهاينة والإنجليز والعالم الغربي برمته، والعرب أنفسهم. وانقسم السودان قسمين هو الآخر، بل إنه قد يجابه في يوم من الأيام خطر الزوال والاندثار لأنه وقع تخت مخالب ديكتاتورية غاشمة وبين أشداق الاستعمار الجديد كما يقال. صار شماله شمالا، وتحول جنوبه إلى دولة أخرى لا نعرف عنها شيئا سوى أنها تنطوي على ثروات هائلة لا تعرف كيف تستثمرها، وعلى مياه النيل التي ستظل محل صراع بين سكان إفريقيا الشرقية كلها. وهاهو الاستعمار الغربي يحرك شمال مالي ، ويريد التدخل عسكريا فيه، ولكن بصورة غير مباشرة، بل تاركا الأمر كله بين أيدي أبناء إفريقيا الغربية الذين ما زالوا يتمسحون بأعتاب فرنسا والعالم الغربي برمته. وها هي ليبيا تدخل نفقا طويلا معتما لا نعرف متى ستخرج منه إلى وضح النهار لأنها سارت في ركاب الاستعمار الغربي، ونزلت عند نصيحة ساركوزي وبرنارد هنري ليفي وغيرهما من الصهاينة. ونحن ندرك اليوم حق الإدراك أن الاستعمار الغربي، وأن فرنسا أساسا، لن ترضى بقيام قوة مغاربية في هذا الشق الشمالي من إفريقيا. فهل سنزداد وعيا بخطورة مثل هذا الأمر؟ أم إننا سنترك الأمر بين أيدي من لا يعرفون تسيير دفة التاريخ السياسي والاجتماعي؟ ولذلك، لم أجد بدا بيني وبين نفسي من العودة إلى كتب الأدب، وإلى رواية تشارلز ديكنز تحديدا لكي أحكم على عصرنا هذا بأنه أسود العصور، وأحسنها في نفس الوقت. غير أن جانب الحسن فيه لن يتضح لنا إلا إذا نحن عرفنا كيف ننطلق بسفينتنا صوب المحيط الواسع، محدقين في الأفق على الدوام، متفادين جميع الأمواج العاتية التي قد تعترض سبيلنا؟ وهل الهدف الذي ننشده في هذا الشأن سوى الوصول إلى ر الأمان؟.