عشية رمضان كانت مناسبة للأئمة والدعاة للحديث عن الصيام وفضائله وفضائل قيام الليل والتهجد وغيرها مما تعودنا عليه تقريبا في هذه المناسبة. صراحة عادة ما يلفت انتباهي تركيز الأئمة والدعاة على كون رمضان شهر الصيام والقيام وشهر التهجد والتهليل والتسبيح وقراءة القرآن ، والعمل على ختم القرآن مرة أو مرتين ، وفضائل هذه العبادات الروحية كلها في الإرتقاء بالإنسان وفي زيادة حسناته وقربانه من الله عز وجل. صحيح أن هذا كله ضروري في رمضان، بل فرصته الحقيقية في رمضان، باعتبار أن العبادات الروحية تزيد في هذا الشهر الكريم، لكن هل من الشرع والشريعة أن تتراجع مكانة العمل إلى الصفوف الخلفية، فنركن إلى النوم نهارا والتهجد ليلا وقراءة القرآن متى سنحت الفرصة وندعي أننا أعبد الناس ومن أولائك الذين يكدون ويجدون في الحقول والمزارع والمصانع والمدارس والإدارات ؟ إن العبادات في الإسلام روحية وعملية، وأحيانا تكون العبادة العملية أفضل من العبادة الروحية، ذلك أن العبادة الروحية تفيد صاحبها فقط، بينما العبادة العملية تفيد الأمة بأكملها. فهل يجوز لنا أن نبالغ في قيام الليل والتهجد والتسبيح والتهليل وما شابه، ونأكل ما تنتجه مزارع الصين ونلبس ما تنسجه أنامل الرجل الأصفر وماكيناته ؟ فهل يجوز ل " أمة العمل " أن تأخر مكانة العمل وهو عبادة عملية بالنصوص والمآثر ، إلى المقاعد الخلفية، ونلجأ إلى ارتداء القمصان البيضاء القادمة من السعودية بل من مكةالمكرمة نفسها، لكنها من انتاج صيني ، ونسهر في التهجد أو على طاولات الدومينو والورق ونستيقظ ظهرا ، ثم القيلولة بعده بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : قيلوا فإن الشيطان لا يقيل " .. إن رمضان لم يكن عند السلف الصالح السابق أبدا شهرا للكسل، لم يكن أجدادنا في صدر الإسلام باعتباره مضربا للمثل كسلاء أبدا .. فكيف حولناه نحن إلى شهر للكسل والخمول ؟ إن العبادة الروحية ضرورية للنفوس ما في ذلك شك، لكن لا يجب أن تكون على حساب العلم الذي يعد عبادة عملية. وقصة " أخوك أعبد منك " مشهورة فيما روي عن عمر بن الخطاب. إن أمة الوسطية عليها أن تزاوج بين العبادات الروحية والعملية في تناغم، وإذا كان لابد من تغليب كفة على أخرى، فأنا أدعو إلى تغليب كفة العمل، فما تخلفنا وتقدم غيرنا إلا لكون غيرنا أجلس العمل في المقاعد الأمامية، ونحن دحرجناه إلى الخلف حيث لا توجد مقاعد أصلا.