زيارة الوزير الأول التركي الطيب رجب أردوغان للجزائر اكتست أهمية بالغة من حيث طبيعة القضايا التي تم التباحث بشأنها والتصريحات المتبادلة التي عززت أجواء الثقة بين البلدين، في وقت بدت فيه الطبقة السياسية شاردة وغارقة في أجواء النقاش حول مرض الرئيس والاحتقان الاجتماعي فضلا عن الرئاسيات المقبلة التي بدأت تثير جدلا محموما قبل الموعد. فتحت زيارة رئيس الوزراء التركي الطيب رجب أردوغان أبواب علاقة إستراتيجية مع الجزائر في كل المجالات، فأردوغان جاء إلى الجزائر رفقة وفد هام من رجال الأعمال الأتراك، وقال صراحة بأن أنقرة تريد رفع حجم المبادلات مع الجزائر إلى عتبة ال 10 ملايير دولار أو أكثر، وتحدث عن إمكانية إلغاء التأشيرة عن الجزائريين الذين يزورون تركيا، فهذا البلد ورغم بعده عن الجزائر يشكل وجهة سياحية مفضلة، وهناك عدد كبير من الشركات التركية التي تعمل في الجزائر في مجالات مختلفة، ويبدو أن الاتفاقيات التي تم إبرامها كفيلة برفع التعاون بين البلدين إلى مستوى كبير جدا. صحيح أن الزيارة لها طابع اقتصادي في المقام الأول، فرئيس الوزراء التركي ترك بلده تشتعل وترك المعارضة تدك ميدان »تقسيم« ومناطق أخرى من »الجمهورية الكمالية« ليس من أجل سواد عيون الجزائريين، بل لأن الاقتصاد التركي بحاجة إلى أسواق جديدة، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة جدا في سوريا والعراق ومناطق أخرى من الشرق الأوسط، وتشكل الجزائر سوقا جد مغرية للاقتصاد التركي، كما أن فرص الاستثمار الكثيرة تغري رجال الأعمال الأتراك في قطاعات الطاقة والنسيج وغيرهما، مع هذا هناك جانب سياسي مهم في زيارة أردوغان، التي تعني الكثير من حيث أنها تنطوي على اعتراف تركي بالاستقرار السياسي الحاصل في المنطقة، فالجزائر لم تعد تعتبر دولة تحترق ووجهة خطرة أمنيا واقتصاديا، ومن هذا المنطلق كان مضمون الخطاب ألذي ألقاه أردوغان في الجزائر، والذي شكل ربما نهاية أحلام الذين كانوا يعولون على أنقرة لنقل الفوضى من سوريا إلى الجزائر. والواقع أن تركيا اليوم تعيش على هاجس الاضطرابات التي اندلعت في ميدان »تقسيم« باسطنبول وامتدت إلى مناطق أخرى، وبدا وكأن الأوربيين وحتى الأمريكيين قد اكتشفوا بأن تركيا ليست بالبلد الديمقراطي الذي يحق له تقديم الدروس لغيره في سوريا أو باقي الأقطار العربية، فالمتظاهرون ووجهوا بقمع عنيف نددت به المستشارة الألمانية والرئيس الأمريكي، خوفا من أن تأكل الفوضى حليفهم في العالم الإسلامي وتلقي به في آتون الحرب الأهلية التي تواطأت أنقرة في إشعالها في سوريا، صحيح أن حزب العدالة والتنمية الاسلامي-العلماني الذي يحكم تركيا حقق الكثير من الانجازات في المجالات التنموية والاقتصادية، واستطاع أن يضمن الاستقرار لفترة طويلة جدا، وحول تركيا من جمهورية علمانية عسكرية إلى نموذج لحكم الإسلاميين المعتدلين، لكن من السابق لأوانه الحكم بأن تركيا قد ارتقت إلى مصاف الدول الديمقراطية التي بإمكانها أن تضمن استقرار البيت ومن ثمة قيادة المنطقة نحو أي خيارات إستراتيجية دولية أو جهوية وهذه الحقيقة ربما تناهت إلى الأتراك مباشرة بعد اندلاع »حريق« »ميدان تقسيم«. بطبيعة الحال فإن الجميع يدرك الأبعاد السياسية لزيارة أردوغان ويمكن أن نقرأ الكثير من الرسائل في تصريحات الوزير الأول عبد المالك سلال خلال الزيارة حيث أكد بأن »الجزائر بلد مستقر وسنعمل للدفاع عن هذا الاستقرار..«، ونصح سلال الأوربيين بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول خصوصا في ظل التهديدات الأمنية التي تواجهها وفي ظل تنامي الخطر الإرهابي، داعيا إلى وجوب التعاون الأمني لمساعدة الدول على الوقوف في وجه هذه التحديات، وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام موجه أيضا إلى أنقرة التي يمكن لها أن تلعب دورا مميزا في بناء نظرة متوازنة بين الغرب والعالم العربي بعيدا عن السيناريوهات التي تهدد أمن الدول العربية خدمة لحسابات إستراتيجية ولأجندات الكبار. اللافت أن زيارة رئيس الوزراء التركي تزامنت مع استمرار الجدل في الجزائر حول قضايا كثيرة مرتبطة بمرض الرئيس وبالرئاسيات المقبلة، وكذا الاضرابات التي انتشرت في العديد من القطاعات ووضعت الجبهة الاجتماعية على صفيح ساخن، فالأخبار اليومية توحي وكأن الجزائر قد تعطلت فعلا، فعمال مطار الجزائر دخلوا في إضراب مفتوح مما دفع بالجوية الجزائرية إلى الاستنجاد بالناقلين الخواص، فيما قام 1000 عامل بغلق مقر »سيدار« بعنابة، وبالتوازي مع ذلك هناك دعوات من لجنة الدفاع عن البطالين بتمنراست للعودة إلى الاحتجاج مما قد ينذر بعودة الاضطرابات بقوة إلى ولايات أقصى الجنوب رغم الجهود التي قامت بها الحكومة لتقليص رقعة البطالة من خلال فتح مناصب عمل لشباب الجنوب في القطاع النفطي وحتى في السلك الأمني. تقول الوكالة الجزائرية لتطوير الاستثمار أنه تم تسجيل 48 ألف مشروع استثماري بقيمة 94 مليار دولا خلال 10 سنوات الأخيرة وذكر نفس المصدر أنه من المرتقب أن تسهم هذه المشاريع في توفير 755 ألفا و170 فرصة عمل، وهو ما يفتح أبواب التفاؤل على مصراعيها، لكن هل تكفي الأرقام لإقناع آلاف الغاضبين ووقف الاحتجاجات التي قد تتضاعف مع الدخول الاجتماعي القادم؟ ويبدو أن ثقافة الاحتجاج أصبحت تسري مسرى الدم في عروق الجزائريين، فليست كل الاضطرابات مبررة، ولما تصبح مراكز الامتحان لشهادة البكالوريا، وهي شهادة مهمة وتحظى بنوع من القدسية لدى الجزائريين، محل اضطرابات هنا وهناك، ومحاولات الغش الجماعي رغم سهولة الأسئلة التي كانت في متناول اليد باعتراف الجميع، يجب دق ناقوس الخطر، علما أن سياسات الدولة في السنوات الأخيرة فتحت الجامعة أمام كل من هب ودب وأصبحت نسبة النجاح تتجاوز كل منطق. ولا يزال الجدل حول مرض الرئيس متواصلا، رغم تراجع حدة التكهنات السوداوية على خلفية التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي قال بأن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تماثل للشفاء ويقضي فقط فترة نقاهة، وباعتراف وسائل إعلام عالمية على غرار »الحياة اللندنية« و»لوباريزيان«، رغم الحديث الجانبي على ضرورة أن تفكر الجزائر في رئاسيات مسبقة، ويبدو أن هذا الكلام هو الذي يدفع بالكثير إلى فتح أبواب السباق على كرسي المرادية قبل الأوان، وتشرع الكثير من الوجوه في تقديم نفسها خليفة للرئيس بوتفليقة. وحتى الأحزاب تغيرت على ما يبدو ولم تعد تفكر بنفس الطريقة التي كانت تفكر بها في السابق، فهناك إحساس حقيقي بأن البلد يمر بمرحلة جد حساسة، فما يجري في دول الجوار هو أكبر دليل على ذلك، فحتى تونس التي كانت تقدم في السابق على أنها ابعد ما تكون من تهديد القاعدة، أخذ اللهب يلفح وجوه أبنائها في القصرين على مقربة من الحدود الجزائرية، خصوصا مع مقتل جنديين خارج الطوق الأمني المضروب على جبل الشعانبي، ولما ترصد الولاياتالمتحدةالأمريكية الملايير لكل من يقدم معلومات تفضي إلى تحييد كل من مختار بلمختار ويحيى أبو الهمام القيادي في تنظيم القادة في بلاد المغرب الإسلامي فضلا عن زعيم حركة »بوكو حرام« النيجيرية، وقياديين في حركة التوحيد والجهاد بغرب إفريقيا« فهذا يعني بأن واشنطن قد وضعت منطقة شمال إفريقيا وغرب إفريقيا ومنطقة الساحل جنوب الصحراء ضمن أولويات سياساتها الأمنية والعسكرية، وكل المؤشرات تؤكد بأن أمريكا تريد نقل حربها ضد القاعدة من أفغانستان واليمن إلى شمال وغرب افريقيا ومنطقة الساحل.