أغرق في موسيقى ياني المبدع، لا أستنجد حين أحظى بهذا النوع من الغرق، بل أتمنى ألا ألتقي بشرا، حتى لا ينتشلني من نشوتي تلك، النشوة.. النشوة.. نشوة الموسيقى المبدعة، وهي تنصّبك سلطانا على نفسك، ما ألذّ ألا تتسلطن إلا على نفسك.. نشوة الاختلاء بالذات، بعد أسبوع من الناس.. الكلّ يشكو من الكلِّ في الجزائر، فلماذا لا يريحُ الكلُّ الكلَّ، بأن يلعب كل واحدٍ دورَه، مثلما يفعل ذلك أفراد فرقة ياني؟ التكامل الضروري لمعزوفةٍ حياةٍ جميلة.. النشوة.. النشوة.. نشوة الفن حين يعلن عن نفسه عاريا إلا من نفسه، هل يقرّ الجزائريون لفنّانيهم بمزية أنهم رافقوهم بفنونهم في لحظات إحساسهم بالموت والحياة؟ إنها مرافقة تدرجُ ضمن الأفضال الكبرى، ولا بد أن يُقالَ لأصحابها: شكرا. إن نظرة بسيطة على جنازات الفنانين الجزائريين الراحلين، تكفي لأن ندركَ أن الجزائريين يقرّون لفنانيهم بأفضالهم عليهم، جنازات حافلة.. صادقة.. تجعل أصحابها محلَّ حسدٍ من طرف السياسيين ورجال المال والأعمال، لا يُحسد الفنان الجزائري إلا مرة واحدة في حياته: يحسد على محبة الناس له أثناء جنازته.. لا يتعب ياني من العزف، ولا أتعب أنا من الغرق فيه.. كم يجب علينا أن نناضل في الجزائر من أجل فنان لا يَتعبُ ولا يُتعبُ؟، كم يجب أن نناضل من أجل أنفسنا قبل كل شيء، حتى نجعلها لا تمرّ مرور الجاهلين على الفنون العظيمة؟ كم عدد الداخلين إلى المسارح والمكتبات والمعارض والمتاحف، في مقابل العابرين من غير التفات؟ علما أن الدخول إلى هذه الفضاءات في الجزائر مجاني حتى النخاع.. ههههههههههههه بل إن الدخول المجاني يتبعه أحيانا عصير وحلويات.. هناك مشكلة ما.. من يفكك هذه المشكلة؟ لماذا نكتفي بطرح سؤال التلقي بسطحية في مناسبات معينة، ثم نضرب النح؟ أما آن لنا أن ندرك أن الفنون شريك ضروري في الوصول إلى شارع صالح، يتحاشى العنف، وينتج التحية والابتسام؟ اعزفْ يا ياني.. لا بد لي من هذه الجرعات الموسيقية حتى أغسل داخلي، الدّوش والحمّام لا يكفيان لأن أتخلّص من كل الغبار، غبارُ الدواخل أفظع.. ولا يحقّ لنا نحن الجزائريين أن نشكوَ من كلّ ما يقتضي الشكوى، ما دمنا لا نولي اهتماما بمسح غبارالدواخل، إن مؤسساتنا وجمعياتنا المكلفة بهذه المهمّة لا تقوم بواجبها، أو لا تعرف كيف تقوم بها، وإن السكوت أكثر عن هذا الواقع، يكلفنا ما يزعجنا ويؤذينا أكثر كمجموعة وطنية، إذا تراكم غبار الدواخل في النفوس، أكثر مما يجب.. أزعج الجميع، فهو غبار أعمى، ولا يفرق بين الناس والأمكنة. إن أداء مسارحنا ناقص، وكذلك أداء قاعات السينما، ودور نشر الكتاب وتوزيعه، وأداء وسائل إعلامنا، ومتاحفنا، ودور الثقافة والشباب، مؤسسات لا تعرف جمهورها، وجمهور لا يعرفها، وإن حدث تقاطع بينهما، فبعيدا عمّا يجب أن يكون عليه التقاربُ. حدّثني مرة شابّ من الحومة، يتعاطى الفن التشكيلي: سأجد من يأخذ بيدي، ويستغلني كما أراد، إن أنا رغبتُ في ممارسة الإرهاب، أو ممارسة المخدّرات، أو ممارسة السرقة، فمالي لا أجد من يأخذ بيدي في طريق الفن؟ صحيح أن الدولة شيّدت هياكلَ كثيرة وكبيرة للفن والثقافة، لكنها لم تعرف كيف تنفخ فيها الروح، قلت له: لم تعرف أم لم ترد حسَبَ رأيك؟ قال: إن الذي لا يريد لا يبني أصلا، هناك أزمة كفاءة، وهنا لابد من الإشارة إلى سلبية المجتمع المدني في الجزائر، من حيث روح المبادرة، هناك مبادرات هي من اختصاص الدولة، وأخرى من اختصاص المجتمع، وأخرى شراكة بينهما، والحاصل اليوم أننا بتنا ننتظر كلَّ شيء من الدّولة، والدّولة لا تستطيع أن تحل محل المجتمع حتى وإن أرادت. كم مكثتَ من الوقت لإنجاب هذه الموسيقى يا ياني المبدع؟ هل كنتَ تفكّر وأنت في مرحلة الإنجاب في ضروريات الحياة من مأكل وملبس ومأوى؟ هنا يفكر الفنان الجزائري في ذلك، وأحيانا في ما دون ذلك، ما عدا قلة، ورثتْ وضعا مريحا. لكن لماذا فشل الفنانون الجزائريون في تأسيس نقابة قوية لهم حتى الآن؟ وما يوجد من نقابات يعرف هشاشة لا علاقة لها بإيجابية الفنان؟ إنهم لم يرقوا في هذا حتى إلى وعي الفلاحين والتجار. اعزف يا ياني المبدع.. أحتاج إليك في هذه اللحظة... وأنا أتذوّقُ السماءَ بطريقني الخاصّة.